ترجمة: بهاء سلمان
يعدُّ أنف الثدييات عملاً فنياً تطوّرياً؛ فيمكن لملايين الخلايا العصبيَّة، التي تمَّ تصميم كلٍ منها باستخدام واحدٍ فقط من آلاف المستقبلات الكيميائيَّة الخاصة بالرائحة المشفرة في الجينوم، أنْ تميّز بشكلٍ جماعي تريليون رائحة مميزة.
وهذه الأحاسيس، بدورها، ترشد العديد من السلوكيات، بدءاً من تقييم خيارات الطعام إلى تمييز الأصدقاء من الأعداء إلى إثارة الذكريات.
ويصف فريق بحث بقيادة علماء من معهد "زوكرمان كولومبيا" آلية لم يتمَّ اكتشافها سابقاً في الفئران، وهم أسياد الجزيء الجيني RNA، والتي يمكن أنْ تفسّر كيف تصبح كل خلية حسية، أو خلية عصبية، في أنوف الثدييات مصممة خصيصاً لتناسب الكشف عن مادة كيميائية ذات رائحة معينة.
على سبيل المثال، هناك خلايا عصبية حسية في أنوفنا تحمل مستقبلات مضبوطة بشكل فريد للكشف عن مادة الإيثيل فانيلين، الرائحة الرئيسية في الفانيليا، وخلايا أخرى بها مستقبلات لمادة الليمونين، رائحة الليمون المميزة. يقول الدكتور "ستافروس لومفارداس"، رئيس قسم الكيمياء الحيوية والفيزياء الحيوية الجزيئية التابع لمعهد زوكرمان كولومبيا "كيفية قيام الخلايا الحسية في الأنف باختيار مستقبلاتها كانت واحدة من أكثر الألغاز المحيرة حول حاسة وعملية الشم. الآن، القصة وراء حاسة الشم لدينا، أصبحت أكثر وضوحاً، وأكثر دراماتيكية أيضاً".
إنَّ دراما صقل الحواس التي يشير إليها لومفارداس تتكشف بالكامل داخل الحدود الصغيرة لنواة كل خلية عصبية شمية، حيث توجد كروموسومات الخلية وجيناتها.
هناك، في منافسة على غرار ألعاب الحبار، الفائز يأخذ كل شيء، حيث تتنافس جينات المستقبلات الشمية التي لا تعد ولا تحصى في الخلية النامية مع بعضها البعض في عملية غربلتها، على مراحل، أولا إلى حفنة من المتأهلين للتصفيات النهائية ثم إلى فائز واحد، ليكون الجين السائد من الذي يحدد حساسية الخلية للرائحة.
معركة لا متناهية
ويكشف الدكتور لومفارداس وفريقه في دراستهم عن تفاصيل المرحلة النهائية من هذه العملية عندما يخرج الفائز من الجينات النهائية. يقول "أرييل بورمورادي"، رئيس فريق البحث، "إنها في الأساس معركة بين ألف متنافس".الإجراء معقدٌ للغاية ويتضمن مجموعة مذهلة من الشخصيات الجزيئيَّة، كما أنَّ لعب الأدوار التي تزيد أو تقلل من قدرة كل جين على إنتاج المستقبلات الشمية هي مجموعة متنوّعة من الجزيئات المنظمة للجينات. ومن خلال التجمّع في تحالفات مختلفة داخل الجينوم، تساعد هذه العوامل الجزيئيَّة في تشغيل أو إيقاف جينات معينة. وفي المعركة أيضاً هناك مجموعة أخرى من المحاور الجزيئيَّة التي تعيد تشكيل أجزاء من الجينوم بطرقٍ تفضل جينات مستقبلات معينة. وعندما لاحظ فريقه هذه العناصر في الجينوم لأول مرة في العام 2014، أطلق عليها الدكتور لومفارداس اسم "الجزر اليونانية" لأنها ذكّرته بالجزر الموجودة في بحر إيجه.
يقول بورمورادي: "اتّضح أنَّ الجينوم لديه تنظيمٌ مكانيٌ معيّنٌ في النواة والتغيّرات في هذا الهيكل محوريَّة عندما يتعلقُ الأمرُ بالجينات التي يتمُّ التعبير عنها في البروتينات، مثل المستقبلات الشميَّة؛ ونحن نتعلّم مدى أهميَّة هذه العمليَّة في نضوج الخلايا الشميَّة".
في ورقتهم البحثية الجديدة في مجلة Nature، استدعى الباحثون مجموعة من البيانات من دراسات الفئران التي تشير إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA) بوصفه الجزيء الأساسي في آليَّة اختيار الجينات في الجهاز الشمي. ويعرف الحمض النووي الريبوزي (RNA) بأنه الجزيء الوسيط الذي يترجم الشفرة الوراثيَّة المتجسّدة في الحمض النووي (DNA) إلى جزيئات بروتينيَّة ذات وظائف
خلوية محددة، مثل اكتشاف الروائح.
تواصل الاكتشافات
وباستخدام تقنيات متطورة لتحليل التغيرات في بنية الجينوم مع نضوج الخلايا، يقول الباحثون إنَّ الأدلّة التي توصلوا إليها تشير إلى دورٍ محوري ثانٍ للحمض النووي الريبوزي (RNA). يقول بورمورادي: "يبدو أنَّ الحمض النووي الريبوزي (RNA) الذي تصنعه الخلية أثناء التعبير الجيني يغير أيضاً بنية الجينوم بطرقٍ تعزز التعبير عن أحد جينات المستقبل الشمي، بينما تغلق أيضاً جميع الجينات الأخرى".
لا تزال هناك فجوات كبيرة في قصة السيطرة على الجينوم، لكنَّ الباحثين يشيرون إلى أنَّ الخطوط العريضة صارت أكثر تحديداً. يبدأ الأمر بالخلايا الشمّية الناضجة، والتي تعبر في البداية عن العديد من جينات المستقبلات في تلك المراكز الجينومية، حيث تتلاقى الجزيئات والمجمعات المنظمة للجينات، بما في ذلك ما عرفنا كونه يشبه الجزر اليونانية. بعد ذلك، يقوم الحمض النووي الريبوزي (RNA) بغربلة جينات المستقبلات الشمية المتنافسة وصولا إلى جين واحد.
ويصطف المركز المحدد في كل خلية، حيث النجوم الجزيئية، لإنتاج أكبر كمية من الحمض النووي الريبوزي (RNA) لتفوز بالمنافسة. وفي هذا المركز، يرتفع التعبير الجيني للمستقبلات؛ ولكن، مثل المخرب الخادع، فإنَّ الحمض النووي الريبوزي (RNA) من المحور ذاته قد يشقّ طريقه إلى جميع المحاور الأخرى. في تلك المواقع، يتسبب الحمض النووي الريبوزي (RNA) في حدوث تغييرات في شكل الجينوم ما يؤدي إلى إيقاف التعبير الجيني. لتكون النتيجة هي عددٌ من الخلايا العصبية الشمية الناضجة، كل منها يحمل على سطحه مستقبلاً واحداً فقط للرائحة.
موقع ديلي ساينس