علي لفتة سعيد
انبثقت الفلسفة كما يقول البعض لوضع الحلول لمشكلات العالم، مثلما انبثقت من أجل أن يكون العقل هو المدرك لفعّاليات الحياة، من خلال الإجابة على السؤال (لماذا؟) ولأنها أيضا حالها حال أيّ مجالٍ تفكيريّ وتأويليّ، فإن المشتغلين فيها والمتعمّقين في مجالها تشعّبوا وأصبحت الفلسفات أما بأسماء الدول كالفلسفة اليونانية والألمانية والفرنسية وغيرها، أو بأسماء الاشخاص كفلسفة ماركس وهيدجر وكانط وهيغل وجيته وفوكو وديكارت وهولدرن وغيرهم.. كذلك الفلسفات الدينية كالفلسفة الإسلامية والزرادتشتية وغيرهما.
إن الإجابة تأخذ أبعادًا أخرى مِن وفي عالم اليوم. لأن التغزّل بالفلسفة عبر تاريخها وانبثاقها لم يعد مهمًّا أو مؤثرًا إن صحّ القول رغم القلق من طرحه، لأن الفلسفة تبقى مجرّد أسئلةٍ إذا ما احتكمنا إلى فعلها الماضوي التاريخي، الذي يراه البعض تشبه اللغة العالية والعقل المتفتّح والموسيقى، التي تدخل القلب بنغمة روح وقلب تنبعث من أعماق النفس، بهدف الارتقاء إلى تنقية المشاعر وإحلال السلام وحتى الحبّ وقبلها الإيمان بالخالق، الذي بثّ فينا الروح والبحث عن الجمال، لأنّ الأهم هو ما نعانيه اليوم من تراجع قيمة الإنسان وبالتالي قيمة السؤال والقلق من طرحه، أو حتى الخوف من البحث عن الإجابة، فهناك من يشير إلى إن الدين بحدّ ذاته هو فلسفة الوجود كلّه، وهو المرتبط بسؤالٍ كبيرٍ يطرح كثيرًا كيف تكون عبادة الله الخالق الجمال والإنسان؟
وسؤال آخر.. هل بقيت الحياة حياة والدين دينًا مثلًا، وإن قيمه لم تزل محافظة على معانيها السامية وسط السلطويات المتعدّدة في كل الأديان، التي استحالت إلى فرقٍ ومذاهب ومللٍ، مما أدّى إلى تراجع منظومة الفكر الصحيح وتفكيك العلاقة بين الفرد والخالق، إلّا عن طريق طرف ثالث. لذلك يمكن القول إن الحاجة باتت ماسّةً لمراجعة سؤال الفلسفة بطريقة أخرى. بدلّا من (لماذا) المرتبط بالعلاقة بين الأرض والسماء إلى ما الذي تبقّى من هذه العلاقة؟ لنصل إلى سؤال. هل بحاجة إلى فلسيفة أخرى تكون أكثر مفهومة من الناس ومقبلوية ولها علاقة جديدة للنظر إلى الحياة؟ لأن هذه العلاقة إذا ما تمَّ العمل على برمجتها، فإن كلّ العلاقات الأخرى في المنظومات الفكرية يمكن أن تكون أكثر مرونة، وسهلة التعاطي، فاللغة اختلفت في تقبّلها، مثلما اختلفت طرق الاهتمام بالجمال ومعناه، واختلفت طرق العبادة ومسيراتها. ويمكن أن يكون عالمنا المستقبلي، إذا ما بدأ العالم المعاصر بطرح فلسفةٍ جديدةٍ، أكثر فهما للحلول والنتائج، ليس البحث عن المشكلات كما كانت عليها بعض الفلسفات، بل لكي لا يعبّر الفرد المضطهد المقموع الغائب عن فكره والمخدّر بأفكارٍ قاتمةٍ سارقةٍ للتفكير والمخّيلة معا، بل من أجل إيجاد طرقٍ جديدةٍ ليس لتكون الحل، لأن هذا يعني الصراع مع السابق، بل لكي نطوّر العقل الذي يجيد ويفيد بطرح السؤال عن ماهيته.
إن واحداً من أهم ممكنات طرح الرؤية الجديدة حين نفهم العلاقة ما بين قيم الفلسفة والقيم الأخرى كالفن والشعر والأدب، باعتبارها قيمًا بإمكانها أن تنقذ الإنسان من مشكلاته، حتى تلك التي تتّصل بالموت ومفهومه والحياة وأسرارها وهو ما يؤدّي إلى إيجاد معادلة تفكيرية
جديدة.
إن العلاقة بين الفرد والفلسفة أصبحت علاقةً غريبةً، وربما يقال عنها في المطارح السابقية (مواضيع البطرانين) لأنّ الواقع أكثر قتامة من إيجاد فلسفةٍ جديدةٍ، وقبلها من إيجاد حلول فلسفية لما يمرّ العالم المعاصر، بل هناك من يقول إنها لم تعد قادرةً أو مؤثّرةً على تطهير النفس البشرية، وتعديل سلوك الإنسان من كونه إنسانًا شريرًا، إلى إنسانٍ مسالمٍ يحبّ الآخر ويعيش معه، ويفكّر من أجله. وتلك المعادلة يمكن لها أن تنعكس بشكلٍ إيجابي إذا ما تم أدراكها، ولذا فإنه يمكن طرح سؤالٍ مفاده: هل نحن بحاجةٍ إلى قلب المعادلات والأحكام والحكم والقوانين والقرارات السابقة، التي كانت تضحّي بالإنسان من أجل الإنسان الآخر؟
إن الإجابة فيها نوعٌ من الإرباك ربما، لأن المنظومة التعليمية والتربوية والسلوكية قد أصبحت قرارتها قارّة، وأفكارها ملزمة، وتأشيرها يعتمد عليها في توصيف الصالح من الطالح. رغم أن العالم قد تغيّر ولم يعد كما كان. لم تعد مثلًا قصيدة تؤثّر في سلوك مجتمع وتغيّر نظامًا. لم تعد التضحية مفيدة من أجل الآخر الذي يتاجر بالتضحية ذاتها من أجل مراميه وشعاراته وسياساته. إذن هل نحن بحاجةٍ إلى مقولاتٍ جديدة، حتى لو كانت مقلوبةً ومنقلبةً ومتعاكسةً مع المقولات القارّة الداخلة في السلوك والتربية، وأن يبدأ الفكر الإنساني بالقول أنه يفكّر بنفسه قبل التفكير بغيره، وأن لا تضحية بالنفس، بل تنميتها والعمل على إدامتها، كون الآخر يريدك أن تضحّي من أجله لا من أجل الآخرين بما فيها الوطن والدين والمجتمع، وإن فلسفات الكون كلّها منذ بدئها ونشوئها حتى اليوم هي فلسفات سلطوية في الكثير منها من أجل منح السلطة قوّة التبعية لها، حتى تلك الفلسفات الدينية. إن الإجابة تبقى قاصرة لأننا بحاجةٍ إلى فلسفةٍ لها رؤيةٌ جديدة، حين يتم التفتيش عن نقاط الفشل في العالم المعاصر اتجاه الإنسان الذي حوّلته السياسات المختلفة إلى آلةٍ أو قربانٍ أضحية، وإيجاد معادلٍ موضوعيّ، سواء كان حلًا كما هي أصول الفلسفة في جزء منها، أو وضع خارطة طريقٍ عقلانيةً تبتعد عن السلطة وتقترب من الإنسان.