عن العنف

آراء 2024/01/03
...

 ميادة سفر


لا يمكن لأحد أن يجادل أو يشكك أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر العنف بجميع أشكاله ومن قبل كل الأطراف ومكونات المجتمع، من العنف الأسري ضمن البيت الواحد إلى العنف الأوسع الذي يمارسه المجتمع على أبنائه، إلى عنف الدولة تجاه رعاياها، وصولاً إلى العنف الذي تمارسه الدول في ما بينها، مع كل ما ينتج عنه من كوارث إنسانية وبيئية ومادية.

فالحروب قد ازدادت أضعافاً خلال القرن الحالي، وما يجري اليوم من أحداث حول العالم من شأنه أن يغير وجهة نظر الكثير من المفكرين والمنظرين، الذين كانوا يعتقدون أن القرن العشرين هو قرن الحروب والثورات، لأن المتابع لما يحدث وبشكل يومي يستطيع أن يؤكد أن القرن الحادي والعشرين هو الأكثر دموية وعنفاً.

الكثير من النصوص تناولت موضوع العنف وتبعاته وأسبابه والنتائج التي يمكن أن تترتب عليه، فلم يقتصر الحديث عن العنف على جانب معين أو مختصين محددين، بل تناول السياسيون والمفكرون والفلاسفة العنف، وتأملوا في هذه الظاهرة وتداعياتها والكثير من جوانبها.

شكلّ كتاب «في العنف» للفيلسوفة حنة آرندت سابقة في التطرق لهذا الموضوع، حين غاص الكتاب في مفهوم العنف بشكل مختلف، فهي «آرندت» لم تشيطن العنف، بل اعتبرته جزءًا من الطبيعة البشرية، ونابعاً عن مشاعر ملازمة للإنسان، وأرجعت لجوء الناس للعنف إلى غياب العدالة الاجتماعية.

في ضفة أخرى سبق «آرندت» بعقود فلاسفة نظروا للسلام، فقد دعا الفيلسوف إيمانويل كانط إلى «السلام الدائم» فهو لم يكن يحاول أو يحلم بإنهاء العنف في العالم، بل دعا إلى اجتثاث أية احتمالية للحرب، والتصدي لأية أسباب ممكن أن تقود إلى الحروب، لم يتحقق حلم «كانط» إلا أنّ ثمة محاولات بائسة لإحلال السلام والأمن الدوليين عبر المنظمات الدولية، لكنها كانت دائماً خاضعة لأهواء وسياسات الدول 

العظمى.

أما «برتراند راسل» الفيلسوف الإنكليزي فكان طيلة حياته ضد الحرب، وانضم إلى حركة أنصار السلام المناهضة للحرب، وقد تعرض بسبب مواقفه إلى الكثير من المضايقات والسجن.

إن الحديث عن العنف كظاهرة أو حدث فردي حديث شائك ومتعدد الجوانب، كل ما حولنا يشي بمزيد من العنف، حتى أولئك الذين يحاولون القضاء على العنف إنما يقومون بذلك بعنف مقابل، فلم يكن تدخل الدول العظمى في شؤون غيرها من الدول إلا ترسيخاً للعنف وإراقة الدماء والقتل والدمار، وتاريخنا الحديث مليء بالأمثلة على ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في غير بلد في العالم، وما تسببت به من ازدياد العنف والإرهاب الذي تمارسه بحق شعوب بأكملها، وما دعمها لإسرائيل بكل ما تقوم به بحق شعب فلسطين إلا صورة واضحة من العنف لا يدع مجالاً للشك.

أما ما يلجأ إليه مجلس الأمن في منظمة الأمم المتحدة من استعمال القوة تحت البند السابع، لا يعدو أن يكون شكلاً آخر للعنف المكرس بموجب القوانين الدولية، لأن تاريخ تلك الممارسة لم يكن إلا لإسقاط الأنظمة التي لا تتوائم مع سياسة بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن،أو لمصالحها الشخصية.

الكثير من المبررات اليوم تشجّع على الانتهاكات والممارسات البعيدة عن الإنسانية التي تفتعلها البشرية، والتي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى توالد أشكال جديدة من العنف، في حركة متواصلة بشكل يجعل الحديث عن العنف حديثاً دائماً ومكرراً بلا أية بارقة آمل لسلام يأتي في آخر النفق.