الفلسفة والاختلاف

آراء 2024/01/04
...






 علي المرهج

مما قدمته الفلسفة لي هو احترام الرأي المختلف، إن كان صاحبه يطرحه بوصفه وجهة نظر لا على أنه حقيقة لا يمكن الشك فيها أو نقدها.. مما علمتني إياه الفلسفة الشك لا في رأي المختلف معي، بل الشك في رأي أعتقد به، وقد أجد آخر يكشف لي عن ضعف الرأي، الذي أتبناه فلا أعاند لمجرد المعاندة.
علمتني الفلسفة أن هناك أناسا يعيشون في مجتمعات منغلقة فكريا، وعلينا نحن المهتمين بالفلسفة أن نعرف طبيعة تكوينهم الفكري هذا، لا أن نحمل سوط الرأي الذي نعتقد فنجلدهم به ونحاسبهم على معتقداتهم. الفلسفة تعطيك مساحة رحبة لتقبل الرأي المختلف، على أن يحترم أصحاب هذا الرأي المختلف عقائديًا أو أيديولوجيًا أو اجتماعيًا حقوق الآخرين في الإختلاف معهم، بما لا يجعل من معتقداتهم تشغل مساحة الحياة والفكر وتغلق الدائرة على من لا يعتقد بها.
قداسة الأفكار في الأيديولوجيا وفي العقيدة أمر بيّن، ومهمة الفلسفة نقد النزعة الدوغمائية في الفكر وزعزعة أفكاره المسوّرة.
تحدث اركون عمّا أسماه (السياج الدوغمائي) ومن قبل تحدث علي الوردي عن (الإطار الفكري) و(القوقعة الفكرية) وشرح علي شريعتي مفهوم السجون العقائدية، وهذه جميعها أطر تحكم العقل في تحديد مساراته، كمن يلبس نظارات زرقاء فيرى العالم أزرق.
مهمة الفلسفة هي كسر هذه الأطر والأسيجة الدوغمائية لإعادة الرؤية بالعين المجردة لنرى العالم كما هو.
قد يشبه تبني فلسفة ما تبني أيديولوجيا ما، ولكن ما يُميز الفلسفة أنها رؤية إنسانية لا قداسة فيها، ويمكن لأي فرد يعتقد بفلسفة ما ويتعامل معها على أنها بمثابة النظارة التي يرى بها العالم أن يكسرها، متى ما شاء ولا يخشى من كسرها ليخرج من (الكهف الإفلاطوني)، فيرى النور ويكسر القيود التي حعلت يظن أن الظلال هي
الحقيقة.
كانت مهمة إفلاطون تخليص الناس من وهم الشعور بامتلاك الحقيقة وهم لم يروا الحقيقة إنما ظلها.
جاء فرنسيس بيكون فنقد ما أسماه أوهام المجتمع أو أوثان المجتمع، التي هيمنت على العقل الإنساني فأوهمته بأن ما هو مألوف في الحياة هو الحقيقة.
استكمل نيتشه نقده لأوهام المجتمع في كتابه (أفول الأصنام) أو (غسق الأوثان).
تحدث سعد البازعي في كتابه (الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف) عن مفهوم الاختلاف، وميَّز بين مفهومي «الاختلاف الثقافي» و»ثقافة الاختلاف»، يؤكد فيه أن «الاختلاف الثقافي عبارة يُقصد بها الإشارة إلى الاختلاف بوصفه ظاهرة ثقافية وسمة من سمات الثقافة»، أي ثقافة» (ص9).
ليميز بينها وبين «ثقافة الاختلاف» بوصفها الثقافة المتراكمة نتيجة الوعي بالاختلاف والوعي به.
يجد في «ثقافة الاختلاف» ما يُميزها عن «الاختلاف الثقافي»، لأن الأخير من طبيعة الوجود الإنساني، بينما «ثقافة الاختلاف» تتأتى من الوعي بـ «الممارسات التحليلية والتقويمية».
«الاختلاف الثقافي سمة طبيعية، فكل ثقافة لشعب أو جماعة ما تتبنى فكرًا ما، تختلف عن جماعة أخرى مغايرة لها في التوجه الفكري أو الأيديولوجي، وقل الثقافي والأنثربولوجي، لأنها هكذا فهم لـ «الاختلاف الثقافي» يكون من قبيل تحصيل الحاصل، وفق رؤية البازعي هذه.
حينما تنغلق الفلسفة على ذاتها وتدعي أنها وصلت إلى الحقيقة، تتحول إلى أيديولوجيا، وكثيرة هي الفلسفات التي ادعت امتلاكها للحقيقة بما فيها الماركسية التي نقدت الأيديولوجيا وعدتها وعيًا زائفًا، وهذه إحدى أهم ميزات الثقافة العربية المعاصرة، أنها ثقافة متحزبة تنزع نحو الدفاع عن أيديولوجيا الجماعة التي ينتمي لها المفكر.
إذا كان هُناك بعض من القائلين بأن الفلسفة موقف والدفاع عن موقع، فهي كذلك، ولكنها موقف عقلاني لا حساب فيه ولا تعنيف ولا قصاص لمن لم ير فيه أنها كذلك، لأنها فكر حر (يتحرك من جميع الجهات إلى جميع الجهات)، بينما في الأيديولوجيا والتبني الأيديولوجي و»الدوغمائي» للفكر إنما فيه حساب وقصاص، ونزوع فرداني وقناعة بامتلاك الحقيقة عند أصحابها، فهي تتحرك من جهة واحدة بقصد إلغاء جميع الجهات وإلغاء الأبعاد، بل وفرض قناعة فكرية واحدة.
إن كل فلسفة تهيم بالوثوقية ويظن أصحابها أنهم أهل اليقين الذي لا مجمجة فيه، إنما هي رديفة للأيديولوجيا في نُظمها المعرفية وقواعدها التطبيقية، وتلك من مشكلات مجتمعنا في الدمج الأيديولوجيا والفلسفة لدرجة طغيان الأولى على الثانية.
من أهم مميزات الفكر الفلسفي أنه فكر يصطدم ويصدم الراكد والسائد في المعرفة على أنه حقيقي، ليفكك مقولاته ويحلل المركب فيه، ليكشف لنا عن مقدار ما هو خقيقي فيه مما هو زائف.
الفلسفة بحسب (كارل بوبر) فكر مفتوح نحو التعددية، وضد الحتميات التاريخية، يساعدنا على تعلم ممارسة التفنيد على ما نعتقده أنها فرضيات غير قابلة للتكذيب.