محمد غازي الأخرس
قبل يومين، استوقفني السياسي المصري مصطفى الفقي، الذي شغل مناصب رفيعة وكان سكرتيراً للرئيس الراحل حسني مبارك ومن أبرز مستشاريه، استوقفني وهو يطرحُ رأياً عن الشعبين العراقي والجزائري، بتهذيبٍ شديدٍ، من دون رائحة انتقاصٍ أو تجريحٍ كالتي نشمّها دائماً عند البعض. ماذا قال؟ قال إنَّ الشعب الجزائري حادُّ المزاج، شجاعٌ وعنيف، ومرّت عليه مختلف المحن وتجاوزها بقوته، ولئن انفرد الجزائريون في المغرب العربي بهذه الخصيصة، فإنَّ العراقيين يقابلونهم في المشرق العربي بالشيء نفسه. ثم أضاف مكرراً ما ردَّده العديد من المفكرين والساسة والحكام قبله، من أنَّ العراقيين رغم قِدمِ حضارتهم وعمقها، ورغم مدنيتهم، إلا أنهم عنيفون على الدوام، ويمكن أنْ يستخدموا أيديهم بعد ثوانٍ إذا ما اختلفوا في نقاشٍ ما. وهم في هذا متفردون، لا يشبهون المصريين أو الخلايجة مثلاً، ممن يمكن أنْ يستغرقَ خلافهم اللفظي وقتاً طويلاً حتى يستخدموا أيديهم. ثم اختصر كل هذا بقوله إنَّ العراقي يعملُ في خلافه مع الآخر بمبدأ "يا قاتل يا مقتول"، أي أنَّه لا يميل لترك الخلاف من دون حسم.
الحق أنّ هذا الرأي ليس جديدا أبداً، ولطالما تكرر هنا وهناك. حول تشابه العراقيين والجزائريين، كنت سمعت من الراحل أحمد المهنا رأياً كهذا، فحدة المزاج وحرارة الطبع، والميل إلى العنف مشتركاتٌ واضحة بينهم. قال يومها إنَّه لا يوجد في المغتربات أقرب إلى العراقي من الجزائري ولا أقرب إلى الجزائري من العراقي، قال ذلك عن تجربة عليه رحمه الله.
أما رأي مصطفى الفقي بالعراق والعراقيين، فقد بات من بديهيات الثقافة العربيَّة، لا سيما حين تتمّ المقارنة بين العراقيين والمصريين بوصفهما الأعرق حضارة والأكثر تأثيراً في الأقوام المجاورة. غير أنَّ اختلاف طريقة طرح رأي "الفقي" عن غيره يكمنُ في أريحيته، وعدم إيحائه بالطعن أو التجريح كما اعتدنا. لقد ذكرت مرة أنّ طه حسين، على ما عنده من رقيٍ علميٍ، كان سأل محمد رضا الشبيبي ذات يوم، في سياق بدا وكأنَّه تعريضٌ خفيٌ، سأله قائلاً: لماذا برأيك عُرِفَ الشعب العراقي بتمرده الدائم على الحكام وكثرة ثوراته؟ فردَّ الشبيبي فوراً: ولماذا برأيك عُرِفَ الشعب المصري بكثرة طاعته للحكام وقلة تمرده عليهم؟ لربما ألمح طه حسين هنا لخصيصة عنفٍ غير محمودة لدى العراقيين، فأجابه الشبيبي بتلميحٍ مضادٍ تعكس سرعة بديهيته من أنَّ المصريين يتميزون بخصيصة الدعة والضعف مما لا يليق بالشعوب الحرة.
قبل "الفقي" كنت رأيت مقطعاً من حوارٍ مع الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في أول أيام الاحتلال الأميركي للعراق، وفي الحوار المذكور يسأله محاوره عن إمكانيَّة قبول العراقيين لنزول قوات عربيَّة في بلدهم بدلاً من قواتٍ أمميَّة، فأجاب مبارك وقد علت وجهه ملامح استغراب شديد: العراقي مش حيقبل أبداً أي واحد عربي عشان أيه يوقفوه في المرور يمين شمال.. أبداً، (يلوح بأصبعه) عنده عنجهيَّة معينة مش حيقبل أبداً واحد عربي (مع ضحكة) يجي يديلوه تعليمات! ثم ذكر أنَّ الساسة العراقيين أخبروا العرب رسمياً بعدم رغبتهم في أنَّ تنتشرَ قواتٌ عربيَّة في بلادهم. هل يعدُّ هذا غروراً أم حدة مزاج أم ماذا؟ الأمر يحتمل التفسيرين ربما، فالعراقي معتدٌّ بنفسه، متعجرفٌ، متعالٍ، ومليءٌ بمشاعر التفوق التي غذاها رأسماله الرمزي العريض، أو ما يسميه بيير بورديو بـ"الدين المدني" المؤمن به، القائم على حقيقة أنَّه الأعظم حضارة وإرثاً من الجميع، ولعلَّ ما يغذي هذا التعجرف والعنجهيَّة كما يراها الآخرون بنا هي حدّة المزاج وحرارة الدماء وسرعة تفجر الغضب والثورة في نفوسنا ـ نفوسنا ذات "الحوصلة الضيقة"، المتهورة وغير الصبورة. وللموضوع تتمة، لأنَّ الحديث عن الشخصيَّة العراقيَّة لا يتوقف ولن يتوقف فتأمل.