ينبئنا التاريخ بأن إسرائيل لن تكسب {حرب الاحتلال}

قضايا عربية ودولية 2024/01/07
...

• مارشال بو

• ترجمة: أنيس الصفار 

رداً على الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول الماضي أقدم الجيش الإسرائيلي على غزو قطاع غزة بهدف معلن هو تدمير ما وصفه بأنه "جماعة إرهابية". بناء على ذلك يخوض الجيش الإسرائيلي منذ ذلك الحين ما يطلق عليه الكثيرون وصف "حرب مكافحة التمرّد".

حماس لا تملك جيشاً بالمعنى المقصود للكلمة، لكن ذراعها العسكري يتألف من مجموعة من المقاتلين الفدائيين المتّحدين، حسني التنظيم والتمويل، الذين يطبِّقون أساليب حرب العصابات. هدف الجيش الإسرائيلي المعلن هو القضاء على مقاتلي حماس أو تجريدهم من قدراتهم ما أمكن دون المساس بالمدنيين.

بيد أن الجيش الإسرائيلي في الواقع لا يخوض حرباً ضد التمرد في غزة، بل يخوض ما نستطيع فهمه ووصفه على نحو أدق بأنه "حرب احتلال". فالإسرائيليون قد خرجوا من غزة في العام 2005، وها هم الآن يعودون إليها كمحتلين فعليين. هذا الوصف ليس المقصود منه الإيحاء بأن الجيش الإسرائيلي سوف يبقى في غزة على المدى البعيد، فهو قد يبقى أو لا يبقى. الوصف بالأحرى مناسب لإيضاح طبيعة التحديات والأوضاع العسكرية الخطيرة التي يواجهها الجيش الإسرائيلي وفقاً لما آلت إليه الأوضاع اليوم.

فما هو الفرق إذن بين "حرب مكافحة التمرد" و"حرب الاحتلال" .. وهل ينفع تمييز الفرق بينهما في فهم الحرب الدائرة في غزة؟.

حرب مكافحة التمرد – على الأقل كما يفهمها السياسيون وأصحاب النظريات الذين يصرّون على أن الحرب التي تُخاض الأن من هذا النوع – تواجه القوات الغازية فيها فئتين هما المتمردون والمدنيون. الفئة الأولى تكون معبأة بدوافع سياسية، وهي مسلحة جيداً وذات فتك وبأس. أما المدنيون فإنهم ببساطة مجرد "أشياء في الطريق"، وهم محايدون سياسياً، إن لم نقل مؤيدون للقوات التي جاءت لمساعدتهم. غاية ما يتمناه معظم المدنيين، وفقاً لمفاهيم خبراء مكافحة التمرد، هو أن تنتهي الحرب لكي يعودوا إلى متابعة شؤون حياتهم، والعمليات التي نفذتها ألمانيا الغربية ضد فصيل الجيش الأحمر خير نموذج لحرب مكافحة التمرد، وإلى حد ما الجهد الأميركي أيضاً الذي بذل في مكافحة تنظيمي القاعدة و"داعش" .

في الحالات المذكورة أعلاه كان من الصعب تشخيص من هم المتمردون وتمييزهم بالضبط، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا يتمتعون عموماً بدعم وتأييد السكان المحليين، وقد سهّل هذا الوضع القيام بالعمليات العسكرية ضدهم.

أما في "حرب الاحتلال" فهناك متمردون ومدنيون يقفون موقفاً معادياً. الفئة الأولى، كما كان الحال في حرب مكافحة التمرد، تكون مسلحة وذات بأس، ولكن الفئة الثانية – التي يكمن فيها الفرق الحاسم – لا تكون صديقة ولا تضمر شيئاً من الودِّ للقوات المحتلة. فمهما تباينت الميول السياسية لمن يقعون تحت طائلة الاحتلال سوف يجتمع رأيهم على وجوب رحيل القوات الأجنبية وعودتها من حيث أتت. المدنيون قد لا يكونون مقاتلين فعالين، ولكن من المحتمل أن يمدّوا يد العون للمقاتلين المتمردين ولو من منطلق وطني قومي.

يُفهم من هذا أن حروب الاحتلال – التي تصفها قوى الاحتلال في معظم الأحيان، ولأسباب دعائية مفهومة، بأنها "حروب مكافحة التمرد" – كانت شائعة الحدوث وأهلكت ما أهلكته في عصرنا الحديث. يكفي المرء أن يتذكر ما حدث للبريطانيين في ماليزيا وللأميركيين في فيتنام وللفرنسيين في فيتنام أيضاً والجزائر وللسوفييت في أفغانستان وللأميركيين في العراق وأفغانستان. في هذه الحالات جميعاً كان من الصعب تمييز المتمردين عن سواهم، لكن (وهذا أمر شديد الأهمية) كان كثير من السكان المحليين يجاهرون بالعداء للقوات المحتلة، وقد جعل هذا الوضع العمليات العسكرية أشد صعوبة.

خير مثال يُساق على حرب الاحتلال هو حرب فيتنام، لأنها توضِّح مدى صعوبة خوض مثل تلك الحرب – ناهيك عن كسبها. فقد قالت الولايات المتحدة منذ البداية إنها تخوض حرباً لمكافحة التمرد في فيتنام الجنوبية، ووصفها البنتاغون والإدارات الرئاسية المتعاقبة بأنها "حرب من نوع مختلف". لم تغزُ الولايات المتحدة فيتنام الشمالية وقالت إنها لم تغزُ فيتنام الجنوبية أيضاً، ولكن ما فعلته كان هو الغزو بعينه. أرسلت الولايات المتحدة عبر مسار الحرب 2,6 ملايين عنصر عسكري إلى فيتنام الجنوبية، وفي ذروة العمليات الحربية كان لديها أكثر من نصف مليون رجل هناك. وفي المحصلة كانت الولايات المتحدة تحتل الشطر الأعظم من فيتنام الجنوبية.

من بين الأماكن التي احتلتها الولايات المتحدة كان إقليم "كوانغ نجاي" على الساحل الشمالي الشرقي لفيتنام الجنوبية. هنا كان الموقع الذي شهد مذبحة "ماي لاي"، حيث قامت القوات البرية الأميركية في "كوانغ نجاي" بمطاردة الفيتكونغ، والاشتباك معهم في بعض الأحيان .. والفيتكونغ هم المتمردون حسب ما تصفهم نظرية مكافحة التمرد. لكنهم وجدوا أنفسهم يواجهون السكان في فيتنام الجنوبية الذين أبدوا عداء سافراً للأميركيين. أخذ السكان المحليون يطلقون نيران البنادق القناصة على الأميركيين ويزرعون المفخخات والألغام في طريقهم لمساعدة الفيتكونغ، كما كانوا مساهمين بشكل عام في مقاومة الأميركيين.

شخَّص الجنود الأميركيون العدوانية لدى الأهالي الفيتناميين في "كوانغ نجاي"، وهم عامة السكان الذين يفترض أنهم كانوا يحاولون الدفاع عنهم. في أعقاب مذبحة "ماي لاي" فتح الجيش الأميركي تحقيقاً لمعرفة الخطأ الذي وقع وتسبب بفشل ستراتيجيتهم لمكافحة التمرد. سأل المحققون المشاركين في العملية: ما الذي دعاهم إلى قتل المدنيين؟ وكانت إجابات الجنود في أغلب الأحيان هي أنهم لم يعلموا أنهم "مدنيون". كان الفيتناميون في "كوانغ نجاي" متعاطفين جميعاً مع الفيتكونغ، وبالتالي كانوا مصدر خطر، حسب ادعاء الجنود الأميركيين. من المهم أن ننتبه هنا إلى أن الجنود الأميركيين لم يقولوا إنهم واجهوا صعوبة في التمييز بين المقاتلين والمدنيين، بل قالوا إن جميع المدنيين كانوا يمثلون تهديداً محتملاً بنظرهم.

في غزة يجد الجيش الإسرائيلي نفسه في موقف مشابه لذاك الذي واجهه الجيش الأميركي في إقليم "كوانغ نجاي"، فالإسرائيليون قد دخلوا تحت غطاء مهمة يفترض أنها لمكافحة التمرد .. ولكنهم في الواقع احتلوا غزة. من المعلوم أن حماس لا تريدهم هناك، ولكن معظم سكان غزة، الذين عانوا ما عانوه من هجوم الجيش الإسرائيلي، يرفضونهم كذلك. هل من المبالغة القول إذن إن معظم سكان غزة يكرهون الجيش الإسرائيلي؟ قد يقول المنتقدون إن كثيراً من الغزيين كانوا يكرهون الجيش الإسرائيلي من قبل الغزو الإسرائيلي، ومرة أخرى نقول ربما كان هذا صحيحاً، ولكن الغزو والاحتلال لم يجعلا الوضع أفضل بالتأكيد. ففي استطلاع للرأي أجراه مؤخراً "المركز الفلسطيني لأعمال المسح والأبحاث السياسية" قال 57 بالمئة من الغزيين إن حماس كانت "على حق" في مهاجمة إسرائيل يوم 7 تشرين الأول. كما قال 97 بالمئة  ممن شملهم الاستطلاع، أي جميعهم تقريباً، إن الإسرائيليين يرتكبون جرائم حرب في غزة.

هذه الحقيقة، أي وجود سكان يكادون أن يكونوا موحّدين في موقفهم المعادي، تجعل عمليات الجيش الإسرائيلي بالغة الصعوبة. فالقوات الإسرائيلية سيترتب عليها أن تحارب حماس، لكن عليها أيضاً أن تشعر بالتوجّس والقلق من المدنيين الفلسطينيين العدائيين الذين يعيشون في ظل ما يعتبرونه احتلالاً من قبل الجيش الإسرائيلي. مخاطر قيام الجيش بعمليات عسكرية وفق هذا السياق عديدة، لكن أبلغها أهمية – من زاوية حماية المدنيين على الأقل- هي أن الجيش الإسرائيلي لابد أن ينتهي إلى اعتبار سكان غزة المعادين "متعاطفين مع حماس" وستتبع ذلك نتائج مفجعة.

تجلَّت المخاطر التي تنطوي عليها حرب الاحتلال بأوضح صورها في يوم 15 كانون الأول عندما أردت القوات الإسرائيلية ثلاثة رهائن إسرائيليين في مدينة غزة. قال الجيش الإسرائيلي إن قواته اعتقدت خطأ أن الرهائن الإسرائيليين الثلاثة مصدر خطر عليها، رغم أنهم لم يكونوا مسلحين ويلوحون بعلم أبيض، ومضى بيان الجيش موضحاً أن عمليات القتل تلك تنتهك قواعد الاشتباك الإسرائيلية. بيد أن البيان أغفل النقطة المهمة، وهي أن جميع سكان غزة في منظور القوات البرية الإسرائيلية يعتبرون مصدر خطر مهما بدا من براءة مظهرهم. وهذا القول يصدق بشكل خاص على الذكور الذين بسنِّ الخدمة العسكرية، وقد كان الرهائن الإسرائيليون الثلاثة الذين لقوا حتفهم جميعاً من الذكور وفي سن الخدمة العسكرية.

في عصرنا الحديث لم تنته أي من حروب الاحتلال نهاية طيبة، سواء للغالب أو المغلوب. فالشيء الذي يحدث عادة هو أن السكان المدنيين المعادين للاحتلال، الذين هم في نظر القوة المحتلة متعاطفون مع الطرف الآخر، سيعانون معاناة هائلة ومن بعد ذلك ترحل القوة المحتلة مهزومة. هكذا كان الحال في الجزائر وفيتنام (مرتين) وأفغانستان (مرتين). يعلم الجيش الإسرائيلي هذه الحقيقة جيداً بعد أن خاض بنفسه حرب احتلال وخسرها في جنوب لبنان بشكل متقطع ما بين عامي 1982 و2000. بقي أن نرى إن كان الإسرائيليون قد تعلموا هذا الدرس حقاً.


 • عن مجلة "رسبونسبل ستيتكرافت"