لماذا تنحسر المشاركة السياسيَّة في العراق؟

آراء 2024/01/08
...

ابراهيم العبادي
على مدى ثلاثة انتخابات أجريت في العراق بين الأعوام 2018 - 2023، جرت متغيرات سياسية عديدة، لكن الثابت الواضح الذي لم يتغير، كان ضعف المشاركة الانتخابية، سواء في الانتخابات البرلمانية العامة. أو في انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة، التي اجريت في 18 كانون الاول من عام 2023، الامر الذي يشير إلى تضاؤل رغبة قطاع كبير من المواطنين عن المشاركة السياسية.
قياسا بالانتخابات التي جرت في السنوات الاولى من التغيير، وعزوف هؤلاء عن التعبير عن مواقفهم عمليا، وعدم اكتراثهم للنتائج الانتخابية، وهو ما يكشف عن سلوك سياسي تشكل دوافعه الثقافة السياسية ومحدداتها، وعدم شعور هذا الصنف من المواطنين باهمية اصواتهم في اختيار الحاكمين و في صنع السياسات، بل تخليهم عن ممارسة حقوقهم في عملية اختيار الحكومات والتأثير في القرارات السياسية والبرامج الاقتصادية والحكومية على نحو عام. قد يكون تراجع نسب المشاركة في الانتخابات نوعا من التصويت السلبي، أو قناعة بانعدام الجدوى من الذهاب إلى صناديق الاقتراع، او شكل من اشكال المعارضة السلبية، لكن استمرار ضعف المشاركة واقتصارها على الجمهور الحزبي لا بد أن يثير الكثير من الاسئلة عن اسباب هذا الاعراض المتكرر، ولا بد أن يحفز الزعامات والقوى السياسية إلى البحث عن الاسباب الجوهرية لتراجع مسيرة الديمقراطية، رغم أنها ما زالت في أول الطريق.
بداية تعرف المشاركة السياسية بأنها الانشطة التي يقوم بها المواطنون في الفترة ما بين الانتخاب والاخر للتأثير على القرارات الحكومية (جرنستين وبولسبي، 1975)، وعرفها ماكريدس وبراون 1986 بأنها الانشطة الارادية المشروعة التي يقوم بها المواطنون بهدف التأثير بشكل مباشر وغير مباشر في عملية اختيار الحكام أو التأثير في القرارات السياسية التي يتخذونها، ويراها آخرون بأنها حق الشعب في المشاركة في صنع السياسات العامة واتخاذ القرارات، (الهنداوي، الربيعي، 2019، مفاهيم في علم النفس السياسي). وللمشاركة السياسية دوافع نفسية وذاتية تتعلق بوعي الفرد لدوره وارادته وممارسته لحريته وحقوقه واستشعاره لواجباته وحاجاته ومرتبطة ايضا بهويته وانتماءاته وما تملي عليه من مصالح قومية أو اثنية أو دينية، ومطالب اجتماعية وخدمية واقتصادية. لذلك من الاهمية بمكان قراءة انحسار المشاركة السياسية على انها رسالة تحذير للطبقة السياسية كونها تؤشر إلى تراجع الثقة السياسية واللامبالاة مايفقد النظام السياسي الشرعية الانتخابية أو تكون محصورة بنطاق اجتماعي محدود لا يمثل الشعب بأسره ويفتح المجال للتشكيك بشرعية السلطات بسبب ضيق قاعدتها الانتخابية.
إن المشاركة السياسية هي حق شخصي للافراد ولا ينبغي إكراه الافراد على المشاركة أو منعهم منها، بيد ان امتناع قطاع كبير من الجمهور عن المشاركة، سواء في التصويت أو الانضمام للاحزاب أو حضور المؤتمرات والندوات أو الترشح للمناصب العامة، أو في الاندفاع نحو الاحتجاج أو التظاهر أو الإضراب، كل ذلك يؤشر إلى سلبية المواطنين أو إحباطهم أو يأسهم، وانفصالهم عن السياق السياسي العام، وقد يكون ذلك مؤشرا إلى الاغتراب السياسي.
سايكولوجيا يمثل الذهاب إلى الانتخاب استجابة لمثير كبير هو الحاجة إلى تغيير السلطات أو منع تغييرها والدفاع عن بقائها، في حال عدم الاكثراث لذلك، فان الانتخابات لا تعود مثيرا انفعاليا ضاغطا يتطلب استجابة سريعة، أو أن الاستجابة تكون بكف هذا الضاغط وكبته واظهار اللامبالاة خارجا، ثم البحث عن مبررات لذلك، بالقول ان المشاركة لا جدوى من ورائها، وان النتائج محسومة أو متوقعة سلفا، او ان الانتخابات تفتقد إلى النزاهة والعدالة والحرية، أو أن قوى وزعامات نافذة تستطيع تكييف النتائج لصالحها دائما.
هذا الموقف يمثل نزعة عازفة عن المشاركة بسبب الخبرة المتراكمة من تجارب سابقة، ولذلك يقرأ الباحثون تكرر المقاطعة ورفض المشاركة على أنه انعكاس لثقافة لاترى قيمة للصوت الانتخابي، وقد تعزوه إلى شكلية الممارسة الانتخابية وانها لاتمثل جوهرا ديمقراطيا، انما هي ألية لاسباغ الشرعية على قوى تدمن البقاء في السلطة وتتصارع فيما بينها لجعل سلطاتها متوافقة مع الشرعية الانتخابية.
اذا جزم الفرد بأن صوته لا يغير من الواقع شيئا وأن مشاركته وعدمها سيان، تخسر العملية الانتخابية جمهورا مؤثرا، وتكون منحصرة بجمهور ثابت يصوت عادة للجهات المرجعية التي ينتمي اليها، ويتم تحفيزه بمكافآت مالية واقتصادية وخدمية، وبتخويفه من مخاطر سياسية وامنية تهدد تلك المصالح في حال عدم مشاركته، أو يندفع نتيجة اعتقادات وأفكار وأيديولوجية يتحرك في ضوئها.
بقاء هذه الحالة يهدد النظام السياسي ويقلص من مساحة الكتلة الصلبة المدافعة عنه، ويجرده من القابلية على مواجهة التحديات المختلفة، سيما القضايا الوطنية الكبرى.