أحمد عبد الحسين
في ثلاثة أشهر فقط هي زمن الحرب الأميركية ـ الإسرائيليّة ضدّ نساء وأطفال غزة؛ قُتل من الصحفيين ضعف ما قُتل منهم في سنوات الحرب العالمية الثانية بطولها. ففي هذه الحرب التلمودية يراد للحقيقة أنْ لا يكون لها صوت حتى ولو كان هامساً فلا يبقى سوى الغمغمة الجبانة التي تتشبه بالحياد اللاعنفي، أو ذلك الصوت المنافق المستعير أقنعة الإنسانية أمام وجوه الضحايا.
هذه حربٌ دينية ضدّ الحقيقة تشنها أمّة من الزومبي متخمة بعقائد مظلمة تدّخرها منذ آلاف السنين مع شعور زائف بالعَظمة واحتقار الناس، وهي أمة جبانة مرعوبة من ظلّها لكنّها مدججة بأحدث الأسلحة، وأخطرُ ما يمكن تخيّله من رعبٍ هو الرعب الذي يخلقه الجبانُ إذا تسلّح.
مقتل كل صحفيّ مأساة، لكنّ مآسي الصحفيين في هذه الحرب تتلخص في ما حدث لصحفيّ واحد منهم، والمفارقة أنّه لم يزل حياً.
الزميل وائل دحدوح، مراسل قناة الجزيرة، ودّع في أيام الحرب الأولى أغلب أفراد عائلته وظهر متماسكاً رابط الجأش وهو يعود ليقف أمام الكاميرا بينما المشاهدون كلهم منشغلون بنبأ استشهاد أبنائه وإخوته.
أمس استشهد ابن آخر لوائل. لا شيء يمكن قوله لمواساة رجل فقد كل عائلته في قصف تلموديّ يباركه العالم "المتحضر" كله، ولا كلمة يمكن ان تصف مأساة رجلٍ لم يكن مقاتلاً لكنه قُتل مراراً وتكراراً ولم يزل حياً صابراً صلباً بانتظار قتله الجسديّ.
وائل الدحدوح هو فلسطين وقد تجسدت في شخص. لا تعرف المآسي طريقاً لها إلا الطريق الذي يمرّ على بيته، ولكنه كفلسطين يأبى أن ينهار وأن يسلّم لقاتله بالغلبة. وكفلسطين ينكسر كلّ شيء في أعماقه لكنْ لا تسمع له صوتاً منكسراً ولا ترى له عيناً دامعة أو وجهاً مغلوباً. ظلمُ كل الظالمين منذ أول إنسان على هذه الأرض تجمّع في هذه الحرب الدينية حيث القتل ذريع كما لم تفعله أمة متوحشة في التاريخ وحيث الشهود إما جبان خائف أو غاضب لا حول له ولا قوة، لكنّ ظلم هذا العدوان يجد مثاله الأوضح في المأساة الشخصية لصحفيّ مهنيّ شجاع يودّع ابناءه واحداً واحداً ويموت مع كل جثة يدفنها بيده ثم يعود متماسكاً إلى عمله.
هذا الرجل أسطورة كفلسطين.