حوراء ساجت
نحن في عالمٍ أصبحت الأجيال الجديدة فيهِ تضخم المشاعر عند المشكلات، وتتوخى الحذر من دون أيِّ شـيء ينذر بالخطر، يصنفون الحالات النفسيَّة الطبيعيَّة باضطرابات يجب أن تعالج!. أجيال هشة لا تصمد أمام أيَّ هبَّة ريح، وتراها تتشبَّث في كل شيء لشدة فراغها العاطفيّ والذي سببه الهشاشة نفسها.. لا شك أن السبب الرئيسي هو الدلال المفرط للأطفال وتنشئتهم في بيئة تسود فيها الحماية المشددة والخوف المبالغ فيه عليهم، ولكن أهم الأسباب التي أدت إلى هـذا المعترك النفسيّ هو ما يبث على "السوشل ميديا" مِن سموم روَّاد التنميّة الذاتيّة وعلم الطاقة وحتى بعض خبراء العلاقات الاجتماعية.
امتلأت المنصّات الالكترونيَّة بالكثير مِن هؤلاء والتي تثاءبت من كثرة ثرثرتهم التي تبدو للبسطاء بأنّها الأمان الجلّي الذي يقيهم ويحميهم مِن العلاقات السامّة والظروف القاهرة في الحياة، ولكن في وجهها الآخر، ظلامٌ قد لا يدركه الكثير، هذه المنصات هـيَ ذاتها التي تبثّ السموم من دون قصد ذلك، بتعقيد أبسط المُشكلات وجعل ما وراء حدوث التوافه أسباب ونتائج خطيرة، مِمَّا يجعل التركيز عليها والاهتمام بكيفيّة علاجها وإعطائها حجمًا أكبر مِمَّا تستحق، وهكذا تغدو تلك المُشكِلة التي كنت تمر منها مرور الكرام مِن أكبر مُشكلاتك التي يجب أن تعالجها.
هذه الحالة تُسمَّى "تضخيم الألم- Pain catastrophizing" وهي عبارة عَنْ حالة شعوريّة تعتري الفرد عند وقوعهِ في مُشكلةٍ ما تجعله يعتقد أن ما حدث له هـوَ أكبر مِن قدرته على المُقاومة، فيصف ما وقع بهِ بألفاظٍ أكبر مِن حجم المُشكِلة الحقيقيّ، وهكذا يملأ اللا وعي بهذهِ الأوصاف المُبالغ فيها فيغدو حينها فردًا عاجزًا ومنهارًا من دون سبب يستحق ذلك.
ولعلَّ هـذا أحد أهم الأسباب التي جعلت بعض الناس مهووسين بالبحث عَنْ الحلول الوهميَّة التي هم في غنى عنها كمُراجعة خبراء التنمية والطاقة.
ناهيك عَنْ تغذية هـذا الجيل باستمرار على أفكار التميُّز والفردانيَّة، والتمحور حول الذات، حتّى طغت عليهم صفة النرجسيّة بسبب تعبئتهم المُستمرة بأفكار الريادة وتعظيم الذات وترسيخ "أيديولوجيا الإنسانويَّة" في عقولهم؛ لذا أصبح الفرد اليوم نجمًا في فلك حياته ينتظر مِن الجميع أن يشير إليهِ ويُقدّره ويُبجّل ذاته وأفكاره مهما كان من مستوىٍ أخلاقيّ وعلميّ واجتماعي.. وهكذا تجدهُ مُدرّعًا ولامعًا من الخارج إلّا أنه في حقيقة الأمر فردًا هشًّا ومهزوزًا وغير قادر على مواجهة أي انتقادٍ أو كلام يقدح في ذاته، فسرعانَ ما ينهار وينكسرُ عند اصطدامهِ بأيَّ رياحٍ لا تُناسب مناخه. هكذا تتم صناعة هـذه الأجيال الهَشَّة نفسيًّا، والتي لا تتمكن من مقاومة أيّ مؤثرٍ خارجيّ بسبب تحفظها الشديد وحمايتها المُفرطة للذات، وبحثها الدائم عَنْ الأمان والرفق والدلال؛ لذا أصبحت مُجرَّدة مِن المناعة، تنهشها أيُّ آلامٍ وضغوطٍ خارجيّة، ولا تُجيد سوى لعب دور الضحية.
يقول فريدريك نيتشه: "إنَّ مَن تعوّد على الرفق بنفسه دومًا يغدو هَشّ البنية مِن فرط اللين مع النفس، مُبارك إذًا كُل ما يجعل المرء صلبًا".. إذًا فمواجهة الضغوطات وتذوّق شتَّى أنواع الآلام والمآسي، ومواجهة الانتقاد وكُلّ ما لا يعجبنا، سيبني نوعًا من المناعة النفسيَّة المُضادَّة والمُقاومة لتلك المواقف والظروف، تجعلنا أقوى وأكثر تحمُّلًا وصلابةً مثلما تُطوّر بعض الإصابات الفايروسيّة مناعةً داخل أجسامنا تجعلنا مُقاومين ضدّ الإصابة مَرَّةً أخرى.
فالوقاية الدائمة من كُلِّ شيء لَنْ تصنع منك إنسانًا صلبًا قويًا، بل ضعيفًا ورقيقًا.. ويجدر بنا الإشارة هُنا أن اكتساب هذه المناعة النفسيّة لا يكتفي بالتعرّض للضغوطات والصعوبات فحسب، إنما بطريقة تعاملنا وردود أفعالنا عند مواجهتها حتّى نكتسب تلك المرونة النفسيَّة التي تجعلنا مستفيدين من انكساراتنا.
وكما يقول ألان دو بوتون: في عالم مثالي سنكون أشدّ مناعة أزاء تلك المؤثرات الخارجية، لَن نهتز سواء تلقينا التجاهل أو الانتباه، الإعجاب أو التسفيه، إذا امتدحَنا شخصٌ وهوَ غير صادق فلن نُسلّم أنفسنا للغواية من دون استحقاق، وإذا أجرينا تقييمًا نزيهًا لمَواطِن قوَّتنا وحكمنا بأنفسنا على قيمنا الخاصّة، فلن يجرحنا افتراض الآخرين بأننا بلا شأن، سنكون على ثقةٍ مِن شأننا وجدارتنا.