عبد الغفار العطوي
من أين نشأت فلسفة الثرثرة؟ وكيف ساهمت في تطور الفيسبوك؟ يبدو أنَّ هذه الفلسفة قدمت من جوانب مختلفة من اللغة، من قدرة الإنسان في ما سبق من الزمن على استخدام اللغة، وظهور نظرية للثرثرة في مناحي تشكيل اتحادات مجتمعية من وراء إنعاش اللغة التي توفر للثرثرة فلسفة، أو أنَّ هناك نظرية الثرثرة التي تقود لنقل المعلومة قبل ظهور وسائل الاتصال اللغوي السريع، أو هناك نظرية تعد الثرثرة في اللغة إعطاء أهمية خاصة للآثار الجانبية التي تؤهلها استخدامات اللغة في التفكير، لكنَّ الثرثرة لا تعني سوى أنساق لغوية ذات مسحة أنطولوجية، فهي بعيدة كلَّ البعد عن المنحى الأبستمولوجي للغة، حيث تخلو من المعنى الكامل للتفكير الذي ينتج مردودات ثقافية أو معرفية، نعوم تشومسكي في كتابه (اللغة ومشكلات المعرفة) يتناول في محاضراته الخمس في هذا الكتاب العلاقة بين اللغة ومشكلات المعرفة، مؤكداً أنها علاقة متداخلة ومعقدة، أي أنَّ الموضوعات التي تثيرها تبدو واسعة جداً، ما دامت اللغة تتدخل في جميع مفردات المعرفة، فالميل لتغليب مفهوم الثرثرة أمر وارد، ولعلَّ تضارب (المعلومات وطبيعة الواقع) التي تمر من الفيزياء إلى الميتافيزيقا في جوهر العالم المادي يجعل من طبيعة الواقع مجرد قابلية للثرثرة، وما يثيره هذا الكتاب، وهو من تحرير بول ديفيز ونيلز هنريك جريجرسن، إذ يتناول الإشكال الذي يعمي الواقع بملء المعلومات المربكة، خاصة في الفيزياء والكيفية التي تتم فيها معالجة المعلومات بالقول لكن تأثير الثورة الرقمية في البشرية جمعاء ضئيل مقارنة بتأثير ثورة معالجة المعلومات التي سبقتها وهي اختراع نظام الأحرف المتحركة في الطباعة، بمعنى أنَّ الأخطاء في الأتمتة تكلف البشرية المزيد من طرح الفائض من المعلومات بوصفها سقط المتاع، كلود بيريزنسكي في (تاريخ العلوم) يعطي لفلسفة الثرثرة جانباً مهماً من جوانب العلاقة الخفية بين العلماء باكتشافاتهم، خاصة في دروب الكشف العلمي بقوله سوف أروي في الصفحات التالية تاريخ عدد من الاكتشافات بهدف توضيح أنَّ دروب الكشف العلمي قد تكون ملتوية ومليئة بالتعرجات، وفي الغالب لا يمكن التنبؤ بها، فالكشف العلمي قد يكون انعكاساً لحدث ما، ليبدو أنَّ الثرثرة تطل برأسها في أي شيء يخدم غايتها، خاصة في العلم، لذا حينما كتبت مارجريت كونزو في (الفلسفة والفيسبوك) استعانت بإيصال أفكار روبن دونبار حول فلسفة الثرثرة وعلاقتها بالفيسبوك من خلال عدد المتابعين، وأنَّ قانون الفيسبوك قد اشترط على المشترك تحديد ( 5) آلاف صديق فقط، لأنَّ وضع خاصية للثرثرة لا تؤدي إلى أهدافها كلما اتسعت دائرة الأصدقاء، ولكي تتم السيطرة على المارد الأنطولوجي (الثرثرة) والاستفادة منه في وسائل التواصل الاجتماعي لإقناع التحالفات التي أنتجتها اللغة بأنَّ فلسفة الثرثرة الحمل الوديع قورنت الثرثرة بهذه الصلاحية، وجاء تنظير روبن دونبار حول أنه بمجرد ازدياد حجم المجموعة إلى ما يقرب (150) فرداً، لم تعد الاستمالة طريقة مثلى لبناء تحالفات، وسيدنو نشاط تلل المجموعة نحو 30 %، وبما أنَّ أضرار الثرثرة لا تخدش حياء اللغة، ولا تأخذ من خزينها المعرفي والمعجمي تم استخدام العبارات المطاطية مثل: كيف الحال؟ صباح الخير، مساء الخير بعبارات معوجة وساخرة، صباحو مساؤؤه، أو باستخدام الملصقات اللفظية معبرة عبر الصور.. إلخ من هذا القبيل التي تنوب عن اللغة الحوارية بلغة صامتة إيحائية متكررة آلياً، عبارات لا تكلف شيئاً في اللغة بوصفها خطاباً إنشائياً معرفياً، وتشم منها رائحة السطحية والتفاهة لا غير كما لوح د- آلان دونو في (نظام التفاهة) في لغة خطاب التفاهة بقوله: على خلاف ما تفهمنا النظم الإيديولوجية، فإنَّ السلبية قيمة تدفع التعاليم الإيديولوجية الناس دفعاً إلى اتخاذ موقف ما نحو المناطق الفكرية والخلافية، فتحثهم إما على تكوين رأي جديد أو اعتناق رأي سائد، هنا الثرثرة تمسك بعالم يطلق عليه (المجتمع الشبكي) الذي فيه يقف عصر المعلومات حاضراً، ويؤكد مثله مثل مجتمع المعرفة على دخول البشرية إلى زمن تاريخي غير مسبوق، مسنود باقتصاد معولم، كي نواجه الفجوة الرقمية، التي يتحدث عنها مانويل كاسطياس عن بروز اقتصاد جديد أساسه الربط بين المعرفة والمعلومات، يتحرك من دون أدنى اعتبار للحدود، ويمكننا أن نفهم التداخل بين الثرثرة والفيسبوك من خلال ملاحظة أنَّ نتاج عمليات الأداء في الفيسبوك السريع للغة (لغة الحوار) وفرت كثيراً من الوقت والجهد والمسافات، إزاء عملية مشابهة لو كان الأمر يتطلب الجهد البدني، لذا نجح مجتمع المعرفة في استخدام الثرثرة كفلسفة رائجة في تطور الفيسبوك، في (الكون الرقمي) الثورة العالمية في الاتصالات يعطي بيتر بي سيل تعقباً لتلك الثورة، فقد أصبحت المنتجات الإلكترونية الاستهلاكية بالغة التعقيد وغنية بالميزات لدرجة أنه من المألوف اليوم أن تجد ملصقاً توضيحياً أو دليلاً موجزاً للتشغيل السريع، يصحب كتيب إرشادات الاستخدام إضافة إلى أنَّ تاريخ الإنترنت والويب استغرق تاريخاً من التحولات العلمية السريعة المعقدة، بدأت من ظهور تكنولوجيا النانو ومستقبل قانون مور، وأنَّ شبكة الإنترنت العالمية التي كنا نعتقد أنها قد أنتجت لنا اليوم بدأت بهدف مختلف تماماً، لكنَّ المهم هو فهم فلسفة الثرثرة من كل هذا التطور المزعج للفيسبوك، فليست كل الأنشطة الإلكترونية بعيدة عن لغة التواصل التي عمادها وعمودها الفقري أنطولوجيا اللغة القائمة على الثرثرة وفائض القيمة في اللغة، لنتأمل الرسائل ووظائف الثرثرة على الفيسبوك، هي بالتأكيد تعكس إرسال خطابات وحوارات بصورة وثيقة، ومن الاعتقاد أنَّ معاناتها واحدة في طرق الكفاءة التي تعاني منها جميع وسائل التواصل السابقة الأخرى، لكن ما ميز الفيسبوك لغته الجديدة شكلاً ومحتوى، فتطور الرسالة النصية يمثل صيغة تواصل جديدة ابتكرت من أجله، فهي رسالة مختصرة بلغة مكتوبة مختزلة، وبتعدد طرق التعبير ضمنياً لم تغير من طريقة الفهم لها، كأنما الكون الرقمي الذي شهد تطور الإنترنت قد استوعب كل طرق قنوات الثرثرة المعجمية والدلالية والمعيارية في لغة التواصل القائمة على وهم الخطاب الاجتماعي عبر الويب، وأنَّ التحولات الخطيرة المفتعلة في استخدام لغة الحوار قد كفت حدود اللغة إلى مدى التفاعل والإنشاءات التوليدية، وهي النقطة المهمة التي أشار إليها تشومسكي في ربط العلاقة بين اللغة والمعرفة، من باب ألّا تتحول اللغة إلى ترجمان للمعرفة، إنما يجب أن تحاكي قوانينها التوليدية، لكن طغيان أشكال نادرة من الثرثرة قرع ناقوس الخطر أن تكون لغة الاختزال مع العزلة الاجتماعية الواقعية، وخلق أمكنة وعوالم افتراضية أشبه بالوهم الحقيقي الذي يصدقه الحالم بعد اليقظة.