تتعدد مفاهيمنا وتصوراتنا عن المصابين بالهوس، فبيننا من يرى أنَّهم مجانين أو (خبالو) بالتعبير العراقي، وبيننا من يرى أنَّهم ارتكبوا ذنباً كبيراً بحق الآخرين فعاقبهم الله في دنياهم، وهناك آراءٌ أخرى عن الهوس جميعها غير صحيحة.
ولأنَّ من أهداف هذه الصفحة إشاعة الثقافة النفسيَّة، فإنَّ التشخيص العلمي للهوس (إنَّه أحد الاضطرابات الوجدانيَّة، ولمظاهره أعراضٌ جسميَّة واجتماعيَّة وجنسيَّة ووجدانيَّة، فالمصاب بالهوس يمتازُ بنشاطٍ حركيٍ زائدٍ عن الحد بطريقة قد تؤدي الى أنْ يصابَ بالإعياء.
واجتماعياً فإنَّه يتصل بالآخرين في أوقاتٍ غير مناسبة، ويجدد علاقات قديمة، ويبادر الغرباء بأحاديث تافهة، ويكون حاتم الطائي في كرمه، ولكنْ بإسرافٍ سفيه، وله رغبة في التحكّم بالآخرين وعدم مراعاة مشاعرهم من دون قصدٍ منه. وجنسياً فإنَّه يميل الى الاستعراضيَّة والتبرج والتزين المفرط واستخدام الإيحاءات الجنسيَّة الصريحة سواء في الكلام أو
الملبس.
ويميل الهوسيون الى الكلام بصوتٍ عالٍ وسريع، وتمتلئ أحاديثهم بالتورية أو التلاعب بالألفاظ، وبالتفاصيل غير المترابطة، والنكت التي لا تضحك غيرهم. وهم يمتلكون أفكاراً تتطايرُ بسرعة وتتسابق في ما بينها، وهذا أحد الأسباب الذي يفسرُ سرعتهم في الكلام لكي يتواصلوا بغير انقطاعٍ مع تدفق الأفكار لديهم.
ويتصفُ المصابُ بالهوس بتناقص الحاجة الى النوم، فهو قد يكتفي بساعتين أو ثلاث ساعات نومٍ في الليلة، ومع ذلك يمتلكُ من الطاقة ضعفَ ما يمتلكه الأشخاص الآخرون من حوله. ومن صفاته أنَّ ذهنه ينصرفُ بسهولة من موضوعٍ الى آخر، فهو عندما يفعلُ شيئاً أو يناقشُ موضوعاً معيناً (الوضع السياسي مثلاً)، ويرى شيئاً آخر، كأنْ يكون حمامة، فإنَّه يتركُ الموضوع السياسي ويروح يحدثك عن الحمام وأنواعه!. والملاحظ أنَّ الشعور بالغبطة والزهو والصورة المتكلفة للذات، تقودُ المصابَ بالهوس الى أفعالٍ متوهجة وتصرفاتٍ طائشة، ما كان يقوم بها قبل استيلاء الهوس عليه، من قبيل سياقته لسيارته برعونة، وتبذير أمواله، وتصرفات جنسيَّة حمقاء، وما الى ذلك، كما أنَّه يصبحُ غير مكترثٍ بحاجات الآخرين، ولا يهمه أنْ يصيحَ بأعلى صوته على عامل مطعم، أو يطلب بالهاتف صديقاً له بعد منتصف الليل، أو يصرف ما ادخرته الأسرة لأيام الشدة.
ويميلُ المصابون بالهوس الى أنْ ينظروا الى ذواتهم بإعجابٍ متطرفٍ، وبأنَّهم أناسٌ مهمون، وممتلئون قوة، وقادرون على تحقيق إنجازات عظيمة، في ميادين هم في الواقع لا يمتلكون أيَّة موهبة فيها. وهكذا فإنَّهم قد يبدؤون بتأليف سيمفونيات موسيقيَّة، أو روايات أو قصائد شعريَّة، أو تصميم أسلحة نوويَّة، أو الاتصال بكبار المسؤولين في الدولة لنصحهم في كيفيَّة إدارة أمور البلاد!. فقد راجعني أحدهم يقول عن نفسه إنَّه متعددُ المواهب، منها أنَّه يفهمُ في صنع الطائرات، ويفهم في الطب، ويريد إعطاء محاضراتٍ في كليَّة الطب، وأنَّه نظم قصيدة شعريَّة من ألف بيتٍ وصفها من قرأها- أضاف- بأنها جمعت روعة عبقريين في الشعر، المتنبي ونزار قباني!. وحين طلبت أنْ يُسْمِعَني أبياتاً منها أجابني أنَّه سيرتكبُ خطأ كبيراً بحق القصيدة إنْ قرأها لشخصٍ
واحد!.