علي المرهج
يقول عمر خوري في كتابه (كيف ينهض العرب) «هي الثورات لم تسلم منها أمة، وهي الناموس الطبيعي يقضي بأن لا نظام على أساس الفوضى، وهي الظروف التي تحتم على الشعب في بعض الاحيان أن يسير على الجثث والجماجم إلى النهضة والعمران» (أحمد الجدي: محنة النهضة والفزع التاريخي في الفكر العربي الحديث والمعاصر، مركز دراسات الوحدة، بيروت ط 1 /2005).
فَقَدَ مفهوم الثورة بريقه في العالم اليوم لا سيما بعد اكتشاف دعاته عدم قدرتهم على تحقيق الأهداف التي ثاروا من أجلها وأبسط مثال لدينا الثورات العربية، بدءاً من الثورة العربية الكبرى مرورًا بثورة يوليو 1952 في مصر وحتى ثورة أو انقلاب 14 تموز 1958 في العراق، فضلًا عن الثورات العالمية، لا سيما ثورة اكتوبر 1917(الثورة البلشفية) التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفيتي.
كان الجزء الأهم في فقدان مفهوم الثورة بريقه هو قادة الثورات أنفسهم، الذين حولوا هذه الثورات من محاولة للتجديد والإصلاح الجذري إلى بناء نوع جديد من الاستبداد أكثر طُغيانا من الأنظمة التي ثاروا عليها وهذا ناتج باعتقادي في جزء كبير منه من الخلفية العسكرية التي نشأ في ظلها هؤلاء القادة وتحويلهم إدارة الدولة وكأنها إدارة لثكنة عسكرية يحكمها الجنرال، الأمر الذي دفع باتجاه سيادة النزعة الفردية في الحكم والغاء التعددية الفكرية والحزبية والنظر إلى المختلف، وكأنه متآمر يريد الاطاحة بمنجزات الثورة !.
عمل الثوار (القادة) على تغييب الرأي المعارض الذي يُقوم الدولة (الحكومة) ويعيد صياغة سياستها في ضوء تغير المراحل ومتطلبات الواقع المتغير، فضلًا عن غياب النخبة الفكرية وتهميشها والنظر إليها نظرة تشكيكية وكأنها تسعى بشكل مستمر إلى الإطاحة بالحكومة التي جعلت من نظرية المؤامرة وخلق الاعداء والقضاء عليهم أصل من أصول سياستها وإدارتها للدولة طبقًا لقول (غوبلز): «كلما سمعت كلمة مثقف أتحسس مسدسي»، وهذا ما دفع بالنخب الفكرية والثقافية إلى أن تهاجر بلدانها أو تبقى مكمومة الأفواه وبأحسن الاحوال تكتب في محيطها الخاص وبسرية تامة ولا تعلن عن مواقفها، ومنها من اتسق مع السلطة وتهادن معها وأصبح مُنظّرًا لها ومبررًا
لمواقفها.
وجدنا نزوعًا نحو الدعوة للاصلاح بعد أن كانت نتيجة الثورات في المنطقة العربية، وصول أعتى الديكتاتوريات للسيطرة على السلطة، لهذا لم يفقد الإصلاح قيمته في زمن الثورات وما بعدها لأنه يحمل في مضمراته مبررات وجوده كونه «يبدو أكثر تواضعًا وواقعية من المزايدات الثورية السابقة، لا سيما بعد خيبة الأمل لدى الشعوب العربية من الثورات، كذلك يبدو الاصلاح مسايرا لروح العصر، فقد اختفت الأحلام الثورية في العالم كله وليس في المنطقة العربية الاسلامية، ولم يعد النظام العالمي يقبل الهزات العنيفة، بل ربما أصبح بعد تفجيرات 11 ايلول 2001 قليل الاكتراث بالتمييز بين الثورة والمقاومة العنيفة والارهاب.
يرتبط الفكر الإصلاحي العربي عادة بالجهة التي تقترح فكرة الإصلاح وتتعدد ألوانه بتعدد الجهات الداعية له، فإن كانت الجهة إسلامية أخذت الدعوى إلى الإصلاح منحى المحافظة على التراث وايجابيات الالتزام بالدين الإسلامي فكرًا وعقيدةً وسلوكًا، وإن كانت الجهة ذات توجه ليبرالي فيأخذ الإصلاح منحىً معاصرًا يلتصق بأطروحات الفكر الليبرالي الغربي، وإن كان ماركسيًا فيأخذ الإصلاح منحىً اشتراكيًا يساريًا تهيمن عليه مفاهيم المادية التاريخية والمادية الجدلية وصراع الأضداد... الخ
إذن فواحدة من مشكلات الإصلاح أنه مرتبط أيديولوجياً بالجهة التي تُنظَر له، وهنا يأخذ شكل الفيل الذي ينظر له العميان، فالكل يصف الفيل من الجهة التي هو ممسك بها.
لهذا نعتقد بأن الحلول المؤسسة على التبني الأيديولوجي ليست حلولًا جادة ومن الضروري تبني الدراسات النقدية والمعرفية والموضوعية التي تناقش شكل الإصلاح بعيدًا عن التحزب والأدلجة، زالنظر لمفهوم من الناحية الثقافية المعرفية
البحتة.
في ضوء التحول السياسي في العالم كله وفي الوطن العربي بسبب الضغط الخارجي أو التدخل العسكري الأجنبي المباشر، نجد أن الفكر السياسي في الوطن العربي قد بدأ يسير بخطوات حذرة باتجاه القبول بالديمقراطية بوصفها الحل الأمثل للشعوب التي تعاني من صراع أثني أو طائفي، عبر الابتعاد عن النزوع الجذري والانقلابي الذي هيمن على سياسة التغيير في الثقافة العربية التي لم يحصد منها العرب سوى نزعات استبدادية في الحكم وتخلف في الحياة الاجتماعية والثقافية وتراجع في التعليم وانتكاس العملية التربوية، بل وسيادة القيم العشائرية والقبلية وغياب القيم المدنية وتقييد الحرياتـ الأمر الذي جعل المجتمعات العربية تحلم بالديمرقراطية حتى ولو جاءتها «مُعلبة» أو «وصفة علاج» جاهزة كانت صالحة في ظروف معينة لـ «آخر» هو «الغرب»فاعتقدنا أنها صالحة لعلاج أحوالنا وحل مشكلة التخلف في
مجتمعنا!.