محمد غازي الأخرس
والمِيرة عند العرب هي الطعام الذي يمتاره الإِنسان. أو هي جلب الطعام، وفي لسان العرب: "هم يمتارون لأَنفسهم ويمِيرون غيرهم ميراً، وقد مار عيالَه وأَهله يميرهم مَيراً وامْتارَ لهم. والميَّار: جالبُ المِيرَة". ومنه قالوا: ما عنده خير ولا مَير. وفي الجيش، ثمة قسمٌ يسمى "الميرة"، وهو القسم المسؤول عن إطعام القوات. وفي مصر، يسمون الجيش كله "ميري"، ومن ينتسب إليه يقولون إنَّه أصبح يلبس الميري. وفي وقتٍ لاحقٍ توسعت الدلالة لتطلق على الوظيفة الحكوميَّة برمتها، فلابس الميري هو الموظف سواء كان في الجيش أو في المؤسسات المدنيَّة.
أما علي الوردي فيشير إلى أنَّ العراقيين في العهد العثماني كانوا يتهافتون على الوظيفة الحكوميَّة لدرجة أنَّه شاعت آنذاك أغنية تتباهى بها الصبايا بالقول: "راح للميري حبيبي.. اجه من الميري حبيبي".
والمعنى هنا شبيهٌ بالمثل السائر على ألسنة أهل الموصل، الميالين إلى التطوع في الجيش، وهو قولهم على لسان الصبايا أيضاً: لو ملازم لو ما لازم.
بالعودة إلى "ميري" المصريين، فإنَّهم يقولون في الأمثال: لو فاتك الميري تمرغ بترابه، يعنون أنَّه إذا فاتك خيرٌ ما فاقبل بالقليل منه. وأصل المثل كما عرفت أنَّه في أيام احتلال الرومان لأرض الكنانة، كان المصريون يجبرون على زراعة القمح (الميره) ونقله إلى بلاد محتليهم، فكان الفقراء والمعدمون منهم يضطرون، بسبب فتك الجوع بهم، إلى جمع ما يتبقى من "الميره" على الأرض، ثم يخبزونه رغم اختلاطه بالتراب. لهذا قالوا: لو فاتك الميري تمرغ بترابه، ومن ثمّ، عمت دلالة المثل لتشمل أي خيرٍ يفوت المرء، بما في ذلك التوظف في الدولة. أي أنَّه إذا فاتتك الوظيفة المرموقة، فتمرغ بالتافه المتاح أمامك. وقد حدث، ذات مرة، أنْ أرسل أبٌ فرعونيٌ الى ابنه يقول: "بلغني أنك أهملت دراستك وسرت وراء ملاهيك فهل تريد أنْ تكون فلاحاً تشقى وتكدح فلا تكن فلاحاً ولا جندياً ولا كاهناً بل كن موظفاً يحترمك الجميع ويمتلئ منزلك خدماً وحشماً".
في العراق اليوم يصحّ هذا بتمامه، حتى أننا نأسى الآن على الخريجين ممن فاتتهم الدرجات الوظيفيَّة التي وزعت قبل سنة، ثم فوجئوا بقرار الحكومة بإغلاق باب التعيين بكل أنواعه. إنَّ هؤلاء مستعدون الآن لأنْ يرضوا بـ"الصخونه" بعد أنْ رأوا الموت الأحمر بأعينهم، لذلك يقولون: كلشي الجان يمعودين، حتى لو عقود بسيطة، لا بل إننا سنرضى بالأجور، ولنا في المصريين أسوة: لو فاتك الميري تمرغ بترابه، ويا عجبي.