حرب إسرائيل على غزة تجسيد كامل لتاريخ الاستعمار الأوروبي

قضايا عربية ودولية 2024/01/16
...

 حميد دباشي
 ترجمة: مسلم غالب

بينما يواجه الملايين من الفلسطينيين المحاصرين في غزة المجاعة والقتل الجماعي، يحرص جنود الجيش الإسرائيلي الغازي على التقاط الصور لأنفسهم وهم يستمتعون "بمجمعات الاسترخاء"، حيث توفر لهم "الحفلات الموسيقية، وكراسي التدليك، والبوفيهات، وأكثر من ذلك".
من المحزن مشاهدة الإسرائيليين وهم يُدلَّلون أثناء ذبح الفلسطينيين في وطنهم. هذه الممارسة الإبادية للاستعمار الاستيطاني، تعود بنا إلى بارتولومي دي لاس كاساس في كتابه "وصف مختصر عن تدمير الهنود الحمر" (1552). حيث وثق للأبد وحشية الإسبان، الذين قاموا بذبح "الهنود الحمر الوحشيين" في هوجاء من العنف. الإسرائيليون يقومون اليوم بنفس الأمر تجاه الفلسطينيين. في أميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا وآسيا وأفريقيا، ترك المستعمرون الأوروبيون أدلة على ممارساتهم الإبادية المريضة. يعتقد بعض المؤرخين قد تكون تجارة الرقيق الأوروبية عبر الأطلسي قلصت نصف سكان أفريقيا. بُنيت الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والعديد من المستعمرات الأفريقية على الإبادة والتهجير والاحتجاز الممنهج للسكان الأصليين.
في الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي يحدث بشكل عنيف الآن في غزة وبقية فلسطين، يعيش الاستعمار الأوروبي مع روح القتل الشهيرة ويعود إلى المسرح العالمي بنفس الشدة. لعقود، عمل دارسو الاستعمار الأوروبي بجد لتوثيق وأرشفة وربط هذه الحلقات من القتل الجماعي المدبر للسكان الأصليين حول العالم، ولكن مثل هذا الدراسات الدؤوبة  غير ضرورية في غزة والضفة الغربية فهنا تظهر وحشية الجيش الإسرائيلي والمستوطنين على الوجه الكامل في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسائط الإعلام لبلدان الجنوب، لأي شخص يهتم بالبحث بنفسه. فقد عرضت إسرائيل تاريخ الاستعمار الاستيطاني الأوروبي الأميركي بأكمله وغرائزه الإبادية على المسرح العالمي.
بينما تعمل وسائط الإعلام الغربية بجد وبلا حياء لتبييض أنشطة إسرائيل القاتلة - عبر تقديم "حقائق بديلة"، وتشويه الفلسطينيين، وتقديس الإسرائيليين، وتطهير الصهيونية لتؤكد للعالم أن إسرائيل "هي أكثر الجيوش أخلاقية" على الإطلاق – فأن العالم تحرر بأسره من صحافتهم الخبيثة. تقوم إسرائيل بارتكابها للإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، والكونغرس الأميركي مشغول بملاحقة أولئك الذين يعبرون عن المعارضة لأفعال إسرائيل وملاحقة التهديدات الوهمية لليهود، بدعم من الأثرياء الذين يرعبون رؤساء الجامعات حتى يفقدوا صوابهم.
وعلى مدى عقود، ظل التفكير النقدي من قبل المفكرين الرائدين المناهضين للاستعمار وما بعد الاستعمار يغير بشكل جذري تصوراتنا عن الوحشيات التي ارتكبتها أوروبا وأميركا في جميع أنحاء العالم. في الولايات المتحدة، قام المفكرون في مجالي الدراسات العرقية والنسوية المتعددة التخصصات بتحديات مبتكرة ضد تاريخ العالم "المُعتمد".
إسرائيل هي نموذج صغير لذاك التاريخ الاستعماري، محشورة داخل قشرة الصهيونية.
قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 30 نوفمبر 2023: "في مدة قصيرة جدًا، قتل عدد أكبر بكثير من الأطفال جراء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة مقارنة بالعدد الإجمالي للأطفال الذين لقوا حتفهم خلال أي عام بمفرده، بواسطة أي طرف في نزاع منذ أصبحت أمينًا عامًا." ومع ذلك، فقد تم تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم بشكل مستمر، وتم نزع مصيرهم من التاريخ، وتم تصوير الإسرائيليين كضحايا انتقاماً من هجوم غير مبرر. إن التاريخ الكامل للغزو الصهيوني لفلسطين بفضل فاعلي الخير الأوروبيين والأميركيين يتم محوه باستمرار. الفلسطينيون ليس لديهم تاريخ، ولا إنسانية، ولا ثقافة. الإسرائيليون موجودون في فلسطين منذ خلق السموات والأرض. وكانت الصهيونية الإنجيلية هي الرواية الأهم للعالم بأسره.
ما يفعله الإسرائيليون في فلسطين هو ما فعله الفرنسيون في الجزائر، وما فعله البريطانيون في الهند، والبلجيكيون في الكونغو، والأميركيون في فيتنام، والإسبان في أميركا اللاتينية، والإيطاليون في أفريقيا، والألمان في ناميبيا، وهو فصل آخر من تاريخ الإبادة الجماعية الأوروبية. كيف يجرؤ شعب على أن يفعل هذا بشعب آخر - ما لم يفكروا بالطبع في أنفسهم على أنهم مقدرون من قبل الألوهية. الصهيونية هي النسخة اليهودية من العقيدة الأميركية العنصرية المتمثلة في "القدر الساطع"، وهو الإيمان بالتفوق العنصري للبيض وصورة للغزو الاستعماري الأميركي للأميركيين الأصليين والمجموعات الأخرى التي أبادوها.
ومثل النسخة الأميركية، يعتقد الصهاينة أن فلسطين هي أرضهم الموعودة، وأن إلههم قد خصصها لهم ووعدهم بها، وأن السكان الأصليين مصدر إزعاج ويجب القضاء عليهم بلارحمة. إن ما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة هو النسخة الصهيونية من نظرية "الاستبدال العظيم"، التي ترى ان أصحاب البشرة الملونة يحلون محل أصحاب البشرة البيضاء وأن هذه العملية يجب عكسها.
عندما يتم التصريح بمثل هذه المشاعر في الولايات المتحدة، فإن كتاب الأعمدة في الصحف المعروفة يسخرون منها ويرفضونها باعتبارها نظرية مؤامرة. ولكن عندما يتم التعبير عن مثل هذه الآراء في إسرائيل، فإنها تدعمها وتؤيدها وتسلحها أيديولوجياً.
كان التطرف المسيحي هو السبب الجذري لإيديولوجية القدر الساطع الأميركية، والتي تحولت الآن إلى الصهيونية الإنجيلية، مع سعيها لغزو "الأرض المقدسة" والاستعداد لعودة مسيحهم. (هذا الرأي لا علاقة له بعيسى المسيح الفلسطيني أو لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، بل هو بناء وهمي بالكامل من الخيال الإمبريالي الأميركي).
في مقالته الكلاسيكية لعام 1893، "أهمية القوات الحدودية في التاريخ الأميركي"، افترض المؤرخ فريدريك جاكسون تورنر أن المستعمرين الاستيطانيين الأميركيين رأوا مصيرهم مؤطرًا بالحضارة الأوروبية التي تركوها وراءهم والهمجية التي واجهوها في "العالم الجديد". يعتقد تورنر أن الشخصية الأميركية تتشكل من خلال تلك المعتقدات. ومن خلال الصهيونية الإنجيلية، فإن قوات الحدود، هى التي تحارب "التوحش"، وهي التي تحرك المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي ضد المقاومة الفلسطينية.
"اجتثوا جميع المتوحشين"، تهمس شخصية كورتز، تاجر العاج الذي أرسلته شركة بلجيكية غامضة إلى قلب مكان غير مسمى في أفريقيا، يُعتقد أنه دولة الكونغو الحرة، في رواية جوزيف كونراد "قلب الظلام" عام 1899. استعار المؤلف السويدي سفين ليندكفيست هذه العبارة لعنوان كتابه الصادر عام 1992، وهو تأمل أخلاقي في جذور الاستعمار الأوروبي والعنصرية والإبادة الجماعية في أفريقيا. عندما أخرج مخرج الأفلام الوثائقية الهايتي راؤول بك مسلسله القصير لعام 2021 على شبكة HBO بعنوان "إبادة جميع المتوحشين"، والذي يستند جزئيًا إلى كتاب ليندكفيست، جاب العالم لتوثيق همجية الاستعمار الأوروبي، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب من فلسطين، باستثناء عبارة خاطفة تشير إلى أن الأمور "معقدة" هناك. الأمور ليست معقدة في فلسطين. في الواقع، الأمور هناك بسيطة للغاية: إن جنون الاستعمار الاستيطاني الأوروبي الخبيث المتمثل في الغزو والاستعمار والإبادة الجماعية يتكشف أمام أعيننا مباشرة.
يحظى الصهاينة بدعم مخلص وغير متحفظ من المستوطنين الآخرين من أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا الذين يقفون خلفهم. ولهذا السبب فإن العالم الذي عانى تاريخياً من الوحشية الأوروبية، بأسره أصبح فلسطينياً.

• عن موقع "ميدل إيست آي"