مؤيد أعاجيبي
يعد أسخيلوس الرائد التراجيدي الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، فهو واحد من روّاد كتّاب المسرح اليوناني البارزين. لم يقتصر دوره على كونه مؤلفاً للمأساة فقط، بل كان له الفضل في أن يظلَّ خالداً في ذاكرة الناس كمبتكر لا يقل أهمية عن عباقرة عصره. استطاع أسخيلوس في مسرحياته الحفاظ على جمالية وبساطة الأغاني الباكخوسية والديثورامبوس بطريقة استثنائية، مما جعل أريستوفانيس المسرحي الشهير يلقبه بـ “الأمير الباكخي” . اتسمت أعماله بروح الملاحم بشكل ملحوظ، وقد قام بابتكارها بأسلوبه الخاص, محتفظاً في الوقت نفسه بروح الملاحم والتفرد. وقد اتسمت مسرحياته بالتميز في السرد، وهذا ما جعله يبرز عن سواه من الكتّاب.
يُعد أسخيلوس مؤسِّساً للمأساة الإغريقية، ويُعد أحد أهم كتّابها، إذ يُنسب إليه الفضل في وضع أسس هذا النوع الأدبي من الناحية الفنية. وقد قام بتحديث العروض المسرحية بالسماح للممثل الثاني بالدخول للعرض، وهو تحول كبير, ففي السابق كان ممثل واحد يقوم بتأدية جميع الأدوار. بالإضافة إلى ذلك، قام بتطوير دور الجوقة في المسرحية، مما ساعد على إبراز الصراع الدرامي الذي يكمن في جوهر الحبكة الدرامية. كما أظهر اهتماماً بالتفاصيل التقنية، إذ ركز على أهمية الملابس كعنصر أساسي في العرض المسرحي، والتي تلعب دوراً كبيراً في مساعدة الممثل على تجسيد شخصيته. كما ألقى اهتماماً خاصاً على الأقنعة التي كان يرتديها الممثلون على وجوههم، إذ سعى إلى تطويرها بشكل دقيق لتعبّر بفعالية عن المشاعر والانفعالات التي يجسدها الممثل. وبالإضافة إلى ذلك، كان يولي اهتماماً كبيراً لتدريب الممثلين ومساعديهم، سعياً لضمان تقديم أداء متقن وفعّال في أدوارهم على خشبة المسرح.
صاغ أسخيلوس نحو تسعين مسرحية لكن لم تبق منها سوى سبع مسرحيات كاملة، وهي “الفرس” التي كتبها عام 472 ق.م، “سبعة ضد طيبة” عام 467 ق.م، “بروميثيوس مصفداً” عام 465 ق.م، “الضارعات” عام 463 ق.م، وكذلك “أجاممنون وحاملات القرابين” عام 458 ق.م، و”الصافحات” عام 458 ق.م. تمت ترجمة هذه الأعمال إلى اللغة العربية على يد المترجم الماهر أمين سلامة من لغتها الأصلية عام 1989 التي صدرت عن دار مدبولي. من خلال هذه الأعمال أضفى أسخيلوس على المأساة جلالاً وروحاً عالية، وتناول بعمق المسائل الدينية والوجودية، مثل العلاقة بين الآلهة والبشر، وسطوة القوى العليا على الإنسان، وتساؤلات حول وجود الشر في عالم يخضع لحكم الآلهة، والصراع الحاد بين الإرادة الحرة وسيطرة القدر. يُظهر في أعماله تواجداً دائماً لقوة القضاء التي تجبر البشر وآلهتهم في النهاية على قبول مصيرهم، حيث يُظهر الناس والآلهة كآلات محكومة يجب عليها تنفيذ مسار القدر، رغم محاولاتها الحثيثة للمعارضة والتمرد(أسخيلوس, ص16).
تتميز مسرحيات أسخيلوس بالصراحة والرزانة، إذ تتخذ طابعاً غنائياً يتغلغل فيه الشؤم. يظهر هذا الشؤم غالباً بشكل تدريجي من خلال تطوّر الصراع بين الإنسان والآلهة. ذلك أنَّ عظمة البشر تثير حسد الآلهة، وتتبعها الغطرسة والضلال، حيث يتعرض المتكبرون للمراقبة ويُصابون بالجنون والعمى. في هذا السياق، يكون العقاب هو الحدث الأهم والرئيس في المسرحيات، إذ يكون ذلك بشكل مخيف ويتخذ صورة مناسك دينية مُحيطة بأسرار غامضة. يبدو أنَّ جلال الموضوع الديني والوجودي في أعمال أسخيلوس يجعله يميل إلى توثيق جوانبه من خلال تجسيد هذه الرؤية بشكل ملموس، كما يظهر في مسرحية “ربات الغضب” أو “الصافحات”.
تدور مسرحية “بروميثيوس مقيداً أو مغلولاً” حول العقوبة التي يتلقاها بروميثيوس، الإله الثائر، على يد الإله الأعلى زيوس، نتيجة لتدخله في خطة الأخير التي كانت تهدف إلى القضاء على الحياة البشرية من وجه الأرض. يظهر هنا بروميثيوس حليفًا للإنسان، حيث يمنحهم سر النار، الذي كان يعد ممتلكاً للآلهة الأولمبية. يعلمهم التجارة والزراعة والطب والملاحة، ويفتح لهم أفق المدينة، مساعيه تهدف إلى إنقاذهم من براثن البؤس والشقاء. وبالتالي، يثير غضب الإله زيوس وينال عقوبته القاسية، حيث يُأمر بربطه بصخرة صلبة وتعريضه للتعذيب. رغم معاناته، يظل بروميثيوس صامداً، ويؤكد على يقينه بأنَّ زمن العقاب سيأتي إلى زيوس. في ذروة القصاص، يرسل زيوس نسراً جارحاً لينهش لحم بروميثيوس، ثم تتسع الأرض وتبتلع الصخرة معه في أحضانها. تتكامل فكرة الثلاثية بشكل نهائي عندما يُدهش بروميثيوس زيوس بصمودهِ، مما يجبر الإله العظيم على الاعتراف بخطئه. وبهذا يتحول زيوس من طاغية جبار إلى حاكم حكيم يظهر تصاعد صداقته مع البشر، وهذا يجعل بروميثيوس رمزاً لصمود وعناد الإنسان أمام الآلهة، لقدرته على تغيير إرادة الآلهة وتحسين علاقتها مع البشر, وهنا أترك بقية المسرحيات لمراجعة القارئ.
توفي أسخيلوس خلال رحلته الثانية إلى صقلية، حيث أقام بها لمدة عامين تقريباً، تنتهي هذه الفترة نحو عام 446 ق.م. في أحد الأيام، كان أسخيلوس يجلس على سفح جبل قريب من مدينة جيلا في صقلية. وفي تلك اللحظة، كان هناك نسر يحمل سلحفاة، باحثاً عن صخرة ليحطم عليها فريسته، فظن أنَّ رأس أسخيلوس صخرة وألقى السلحفاة عليه، مما أدى إلى تحطيم رأسه. وبهذا الحادث المأساوي الأسطوري، انتهت حياة أسخيلوس، الشاعر التراجيدي الكبير، الذي دُفن في أرض مدينة جيلا, تاركاً أثراً هائلاً على مستقبل المسرح المأساوي، ليس فقط على الصعيد اليوناني وإنما امتد تأثيره بعمق في تاريخ المسرح الحديث. رغم التغيرات التي حدثت في مجال الدراما.