أحمد الشطري
مثلما شهدت الحياة تطورات متسارعة على مختلف الأصعدة، وخاصة على الصعيد التقني الذي كان له الدور الفاعل في تلك التطورات المختلفة، شهد الفن عموما والأدب خصوصا والرواية على وجه أخص تطورات مختلفة ومتعددة، فمن الكلاسيكيات إلى الحداثات بمختلف مدارسها، إلى ما بعد الحداثة بمختلف رؤاها وفلسفاتها وتقاناتها، ولعل من أهم الأسس التي انطلقت منها فلسفة ما بعد الحداثة هي نفي وتهشيم فكرة الحقيقة التي كانت سائدة، وإن أي إدعاء بمعرفة الحقيقة هو نوع من الوهم أو الما ورائية في نظر ما بعد الحداثويين.
إذ يؤسسون رؤاهم على مبدأ التشكيك في تمثل أو تمثيل الواقع والحقيقة، فليس هناك واقعٌ حقيقيٌّ ولكن هناك حقيقة وواقع متخيلان ونسبيان، وهذا ما يشير له بيار زيما (Pierre Zima)، بقوله:” إن أحد الاختلافات الرئيسة بين الحداثة وما بعد الحداثة يكمن في واقعة أنه حيثما كان ]الحداثويون[ مثل جان بول سارتر وكافكا يعتقدون بوجود واقع وحقيقة، و]إن[ يكونا عصيين على البلوغ، كان ما بعد الحداثويين مثل روب- غرييه، وليوتارد، أو جون بارث، يضعون الواقع والحقيقة في مصاف المفاهيم الماورائية.”
يعتبر الروائي والناقد الأمريكي وليام غاس William Gass)) صاحب الوعي الذاتي هو أول من نحت مصطلح (الميتافكشن) (Metafiction) في مقال له كتبه عام 1970، وفقا لبتريشيا وُوه (PATRICIA WAUGH)، التي تؤكد أن الميتافكشن تستند بمعنى ما على مبدأ عدم اليقين لهايزنبيرغ (Heisenberg)، وترى باتريشيا” أن الميتافكشن تعالج القضايا عبر استكشاف الذاتي الشكلي، مستعينة بالاستعارة التقليدية للعالم بوصفه كتاباً، ولكنها كثيرا ما تعمد إلى إعادة صياغة ذلك على ضوء النظرية الفلسفية، واللسانية أو الأدبية... إذ بإمكان دراسة الشخصيات في الروايات أن تزودنا بنموذج مفيد لفهم بناء الذاتية في العالم خارج الروايات، وإذا كانت معرفتنا بهذا العالم الآن تتم عبر وسيط اللغة، صار المتخيل الأدبي( العوالم المبنية كلّية بواسطة اللغة) نموذجا مفيدا لمعرفة بناء (الواقع) نفسه.”
إن مصطلح الميتافكشن أو ما بعد القص على الرغم من حداثته إلا أن تمثلات تقنياته كما تشير إلى ذلك بتريشيا لا تنحصر في الروايات المعاصرة بل إنها متحققة بشكل أو آخر منذ النشأة الأولى للرواية في العديد من نماذجها.
ولعل من بين أهم ميزات روايات الميتافكشن هو رفض الصورة التقليدية للمؤلف ودخول الراوي إلى النص والتدخل في عملية السرد من خلال مخاطبة القارئ أو التعليق على حدث ما. وكذلك الاعتماد على التجريب والخروج على الأساليب التقليدية في بناء الحبكة، واعتماد طريقة التوليد أي القص داخل القص، وخلخلة التمايز بين الواقع الحقيقي والمتخيل داخل الرواية، إذ يمكن للمؤلف الدخول إلى عوالم القص كما يمكن للشخوص العبور إلى الواقع ومحاورة المؤلف أو تحرير الكلمات من قيدها السياقي ومخاطبة القارئ أو مناقشة أفكاره وقناعاته، وقد يركز أو يعتمد الميتافكشن على تقديم عوالم بديلة تتحقق واقعيا عبر المسار اللفظي داخل النص ولا يمكنها تجاوزه، وقد تؤدي إلى خلخلة التضاد الحكمي للصدق والكذب، بمعنى أن العوالم والشخوص التي يخلقها المؤلف ليست خاضعة لمنطوقية الصدق والكذب فمن غير الممكن (وصف الروائيين بأنهم كذّابون)، سواء كانت الأحداث أو الشخوص لها وجود فعلي في السياق التاريخي للواقع أم ليس لها وجود، فالأحداث التاريخية أو الواقعية لروايات الميتافكشن هي تاريخ وواقع متخيل لا يعتمد على السند، ولن يسعى لتأكيده أو التنصل منه، ولكنها في ذات الوقت تمثل استعارة للواقع التاريخي أو الآني، بمعنى أوضح أنها صورة لتاريخ أو واقع لفظي يتحقق في سياق النص وليس
خارجه.
ومن المهم الإشارة إلى أن الميتافكشن ليست جنسا في الرواية بقدر ماهي تقنيات أو ستراتيجيات يمكن أن تتوفر بشكل كلي أو جزئي في الرواية أو القصة التي توصف بهذا الوصف.
في كتاب (الميتافكشن لباتريشيا ووه) تورد المؤلفة عدة نماذج لروايات وقصص عديدة، منوهة إلى شكل وطبيعة الستراتيجيات المتضمنة في تلك الروايات التي تضعها في سياق روايات الميتافكشن، ومن ذلك على سبيل المثال رواية إنسان التاريخ (The History Man) لمالكوم برادبري مشيرة إلى أنها” من المتخيل الواعي بذاته تنجح في الإشارة إلى تخييل الواقع دون التخلي بشكل كامل عن الواقعية، واللحظة الوحيدة التي تنتمي للميتافكشن بشكل سافر هي عندما ينطلق روائي أكاديمي، من الواضح أنه ينوب عن برادبري نفسه، عبر ردهة ممر جامعة ووترماوث حيث تقع أحداث الرواية ( يجري تقديمه بشكل طريف كشخصية ثانوية وعديمة التأثير)...”
أمّا في رواياتنا العربية فهناك نماذج عديدة تتجسد فيها تقنيات الميتافكشن، سواء كان ذلك بشكل مهيمن ذي حضور واضح ومتعدد، أم بصورة عابرة ولكنها تجسد نوعا ما الوعي الذاتي للمتخيل في بعض مواضع سيرورة أحداثها، وكثيرا ما يشار إلى رواية (أرواح كليمنجارو) للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله على أنها أحد نماذج الميتافكشن من خلال الحضور الواعي للمؤلف في سيرورة أحداث الرواية، ومده جسور العلاقة المباشرة مع القارئ، وخلقه لعوالم متخيلة محملة بالرمزية العالية، ولعل في هذا المقتطع نموذجا مصغراً لما أشرنا أليه:” صعد جون وهو يعرف أنه سيصل إلى قمة أوهرو، وسيعمل المستحيل كي يصلها هؤلاء الصغار الذين معه. لكنّه أحسَّ أن قمة أوهورو هي أسهل القمم التي عليه أن يبلغها، لأن هناك قمة خلْفه، عليه أن يواصل صعودها إلى
ما لا نهاية.”
ومن الروايات العربية الأخرى هي رواية (ماكيت القاهرة) للمصري طارق إمام في هذه الرواية يرسم المؤلف صورة متخيلة للقاهرة في المستقبل، كما يخلق نوعا من التداخل القصصي، مع التأكيد على صناعة حالة من التشكيك بين الواقع التاريخي والمتخيل كما يتوضح في هذه العبارة من أحد الحوارات” وهل ثمة فارق بين التاريخ والوهم، إذا كان الهدف هو المتخيل؟”.
في الرواية العراقية هناك أيضا ثمة نماذج للميتافكش يمكن أن نشير إلى نموذجين منها باقتضاب على سبيل المثال: كرواية (أصوات من هناك) لنعيم آل مسافر، في هذه الرواية أيضا ثمة توالد قصصي وثمة وعي ذاتي بالخطاب الروائي وهذا ما يشير له في هذا المقتطع: “جلسة التحضير -(الأرواح)- كانت تتصور أنها لو تحدثت إليك وكتبت حديثها؛ فستظل مفتوحة داخل هذه الرواية،”.
وكذلك في رواية (قصر الثعلب) لإبراهيم سبتي وهي أيضا تنطوي على حبكات متعددة، وتختلق مكانا وأحداثا تضع القارئ بحالة من التشكيك بين ما هو واقعي وما هو متخيل، عبر عملية تهشيم للحدود الفاصلة بينهما، ولكنه يصرح في النهاية أن كل ما رواه هو مجرد حلم مستوحى من رواية افتراضية.