علي حسن الفواز
كشف العدوان الصهيوني على غزة عن أزمة علاقتنا بالغرب، وعن طبيعة هذه العلاقة المحكومة بمركزية الغرب وتعاليه، وهو ما يجعلنا مشغولين بالبحث القلق عن الذات، وعن «عقدة الهوية» وعن أطروحات السيادة والاستقلال، فضلا عن الدعوات لضرورة استمرارنا بقراءة خطاب «الاستشراق»، والكشف عن المخفي و»المسكوت عنه» في أطروحات إدورد سعيد عن الثنائية القلقة بين الشرق والغرب، وكيف أن الغرب السياسي والمُسلّح سيظلُّ يفرض شروطه الاستعلائية على الشرق السحري.
هذه الأفكار وغيرها تفتح شهية الحديث عن الصراع والحرب والعلاقات الدولية التي يتحكم بها الغرب، وعن علاقة ذلك بستراتيجيات «إدارة التوحش» لملفات السياسة والأمن، والاقتصاد والمصالح، فضلا عن علاقتها بما تطرحه الليبرالية الغربية من مظاهر ناعمة للاقتصاد الحر والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع الدولي، التي تتخلى عنها في أيّة لحظة من لحظات «الغضب الغربي»، حيث تتحول النعومة إلى خشونة، و»لافتات» الفرجة والاستهلاك إلى إكراهات ودعوات للقتل العمد، متخلية في ذلك عن أية علاقة لها بالفلسفات الكبرى التي نشأت في ظلها.
ما كان لعدوان الكيان الصهيوني أن يستمر بهذه البشاعة، لولا دعم الغرب لسياساته ولتوجهاته العنصرية، وللصور الذهنية الفنطازية عنه، بوصفه أنموذجا لـ»التحضّر» والمدنية، وأن الشرق العربي ما زال بدويا، وأن دعم ذلك الكيان يأتي من منطلق الحفاظ على «البرستيج الحضاري» بعيدا عن كلّ ما يتعلق بالحقوق والقيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
وحين يُفكّر بعضٌ من مثقفينا بأطروحات مضادة، تقف مؤسسات أكاديمية غربية مواقف غريبة ومتشنجة، منها مَنْ يتهَمها بـ»معاداة السامية» ومنها من يُخضعها لتوصيفات أمنية، واتهامات بالكراهية وغيرها، وبطريقة تجعل من أطروحات «العقل التواصلي» و»المجتمع الإنساني» خاضعة إلى مزاج عنصري، يُفقدها قيمتها المفهومية والأخلاقية والإنسانية، ويدفع باتجاه العدوان عليها، وهذا ما حدث في غزة وفي لبنان وفي غيرهما، وبطريقة جعلت من العدوان العسكري تمثيلا إجرائيا لفرضيات المركزية الغربية، ولفكرة القوة والهيمنة التي تجعل من أنموذجها المسلّح هو الخيار الأمني، والتمثيل الثقافي للغرب الذي يعاني اليوم من أعراض «موت المؤلف» الأخلاقي، مقابل ظهور المؤلف الأيديولوجي، وبائع الأحجيات، والبرجوازي القديم الذي يشبه شايلوك شكسبير، حيث تكون صناعة العدو هي الصناعة الأكثر استهلاكا والأكثر تعبيرا عن عصابات العقل الغربي في أنموذج مركزيته القاتلة.