تجسير الهوَّة في السرديَّات الكبرى
أ. د. بشرى البستاني
عن دار الأهوار العراقيَّة صدر كتاب {كنز النقد وتأويل الناقد} بغداد 2023، للناقد الدكتور ضياء خضير، وهو قراءة لمشروع الناقد العراقي سعيد الغانمي، وقد قدم الكتاب بتصدير الناقد العراقي ياسين النصيّر الذي يؤكد حقيقة مهمة، هي أن الكتابة (والمقصود النقديَّة) ليست رأياً على رأي ولا كتابة عن كتابة، وإنما هي تضايف ضروري بين رأيين يجتمعان معاً باختلاف منهجهما على قضية واحدة لها وجهان، وجه سطره الناقد الأول سعيد الغانمي في العديد من كتبه المهمة، وهو يقود القارئ إلى بوادي السرد القديم، ثمَّ يأتي الدكتور ضياء خضير ليكتب دراسته المنهجيَّة لاشتغالات سعيد الغانمي التي يصفها النصيّر، بأنها دراسة مختلفة موجهة لقارئ المستقبل. ولعل الكتابة عن المستقبل من أصعب ما يمكن أن يكتب لأكثر من سبب مطلوب توفره فيها.
وبعيداً عن تكرار ما قيل بشأنها، فهي حسب د. ضياء خضير تؤسس لفهم معاصر في قراءة السرد بمختلف أشكاله، وأن غايته كما تبدو في كتابه هي تأكيد المعتمد الأدبي للغانمي الذي يمثل هوية خطاب الشرق المعاصر، وليكون معلماً ثقافيّاً بجوار خطاب الثقافة الأوروبيّة المركزي وخطاب ثقافة أمريكا اللاتينية الروائي بألوانه الغرائبيّة والعجائبيّة وخطاب ثقافة آسيا الروحي والمادي.
ويؤكد التونسي الدكتور المنصف الوهايبي أنَّ كتاب الغانمي موسوعة دوَّنها عالم عراقي موسوعي مرموق وقرأها الدكتور ضياء محتكماً لسلطة النصّ قدر احتكامه لسلطة القراءة عبر قراءة تتعالق فيها لحظة الميلاد ولحظة الاستكشاف من غير أن يكدر صفوها ضجيج المصطلحات واحتدام النظريات الغربية.
إنَّ حضور التراث العربي في مدوّنات الغانمي وهذه الإشادة بأهميته بأقلام متخصصة حان الوقت لمواجهة الاستشراق الغربي بها، ذلك المشروع الذي تعامل مع ثقافتنا وتراثنا باستعلاء وريبة ودعوة صريحة ومبطّنة للاستغراب من خلال إشاعتهم الزائفة لقضية المركزيّة الغربيّة التي دحضتها كل مصادر الدراسات القديمة والآثار التي أكدت أن الحضارات كانت وما زالت من نتاج الإنسانيّة في كل أرجاء الأرض، لأنّها ما بنيت إلا بجهدهم وعرق أجيالهم، وجهود العرب والمسلمين والمشارقة ما زالت شاخصة في آثار ما بنوا وما خلّفوا من جهود، تشهد لها حضارة وادي الرافدين والنيل والصين والهند وفارس، مما يثبت حقيقة أن الحضارة المعاصرة ليست نتاجاً غربيّاً خالصاً كما اِدّعوا، وإنما هي نتاج جهد إنساني شامل أسهم فيه إنسان الشرق في حضارات زاهرة إسهاماً حقيقيّاً.
ولعل ما يحمد للدكتور ضياء أنّه في معظم ما أتيح لي قراءته من خطابه النقدي عبّر بلغة نقديّة تتسم بالصفاء والرصانة، بعيداً عن الاستسلام للمنهجيّات الغربيّة وأجهزتها المصطلحيّة، بل هو لا يأخذ منها إلا ما ينسجم مع موضوعه ويحاور غايته حواراً يعمل على ترصين حجته دحضاً لادّعاء الآخر، منطلقاً من إدراك سليم للمصطلح كونه وليد بيئته العلمية والثقافية والحضارية ومعبراً عنها وليست بضاعة مستوردة من هنا وهناك، في حين كنا نمتلك تراثاً حضاريّاً يشهد له الكثير من مستشرقيهم، لكنهم حين ملؤوا عواصمنا وبلداننا بمراكزهم الاستشراقيّة لم نتحرك للتعامل معهم بالمثل وطرح ما لدينا من كنوز معرفيّة وثقافة رصينة وآثار تؤكد حضورنا الحضاري العريق.
يشير الدكتور ضياء إلى جانبين متلازمين في منهجيَّة الغانمي هما البنيويّة وما بعدها، مؤكداً أنَّ ما يشغلنا على الدوام هو الخلط بين قضيتي الهوية والمنهج، داعياً إلى الالتزام بهوية دائمة التفتح، تحترم الماضي وتؤجّل اكتمال حضوره إلى المستقبل - ص 17. مؤكدا أنّه أفاد من البنيوية في قضيتي التعريف والتصنيف، مشيراً إلى أهمية معرفة الناقد بالأنساق المحيطة بالظاهرة الأدبيّة والتاريخيّة المعنية وامتلاكه وسائل الدخول اليها لأن ذلك يعمل على إبرازها ومنحها المعنى والدلالة، فضلاً عن أن معرفة الأنساق والجذور النصيَّة تعمل على رفد الحاضر بالأصالة والاستمرار في مقاومة ضغط ثقافة المركزيّة الغربيّة التي أخضعوا لها الشعوب وعملوا باستمرار على جعلها الثقافة المهيمنة والبديلة لثقافات الشعوب المغلوبة، فضلاً عن العناية بالتراث العربي والعراقي القديم والوسيط وكشف الغطاء عما يحتويه من ثراء وشمولية في ذلك العصر الذي أنتجه، مؤكداً أن هذا الثراء يمكن البناء عليه ذلك أن هذا الكشف لأصالة تراثنا الوسيط والمتأخر هو الرد الحقيقي على تغييب تراثنا العربي والإسلامي الأصيل- ص19.
إنَّ تحرّر نتاج الغانمي من البعد الأيديولوجي وإخلاصه لقضية البحث العلمي منحه القدرة على الانفتاح على ميادين معرفيّة لا يحدّها بعدٌ معينٌ من الاشتراطات والتوجهات الضيقة، فقد كانت معظم مشاريعه البحثيّة ذات طابع أدبي ونقدي يتسم معظمه بالأصالة والقوة والانتماء، لا سيما وهو يحمل عبر توجهاته الثقافيّة واطلاعه على جوانب مهمّة من الثقافة الغربية ومركزيتها الضيقة المعادية للثقافة العربيّة والعراقيّة القديمة منها بشكل خاص. كما نجد في عمله مثاقفةً مع الآخر وإبرازاً للهوية الوطنيّة وسط حقل الحداثة الفكريّة والفلسفيّة والنقديّة المعاصرة.
إنَّ خطاب الغانمي النقدي لا يقتصر على القارئ العربي، بل يشمل المثقف والقارئ الغربي ولو بطريقة ضمنيّة، وهنا تكمن أهمية هذا الخطاب الذي يفتح باباً لمثاقفة حقيقيّة ومهمة بين الطرفين، وإن جاءت متأخرة بحسابات الزمن. وهنا يورد الغانمي رسالة كتبها لأبيه جلجامش، مؤكداً أنّ المعتاد أن يكتب الأجداد رسائل في ألواح حجريَّة لأحفادهم، بينما نجد الحفيد هنا هو الذي يكتب لجده حالماً بعودة الزمن الماضي. إنَّ التلاعب بالزمن هنا يذكرنا برؤية الفيلسوف الألماني هيدجر للزمن حين أكد أن الماضي والحاضر لا يتحققان إلا في المستقبل أي حينما يكونان فعلاً ناجزاً.
ويعلن ضياء أن قراءته لكتاب الغانمي تشكلت من ستة فصول كما ترسم صفحة المحتويات مطلع الكتاب مع تفصيل للمحاور المدروسة في كل فصل، ومنها "حجر سنمّار واللانهاية القدرية، وحكايات امرئ القيس والبحث عن أوديب عربي ..."، لتكون نماذج تطبيقية وكانت الحكاية الأولى تدور حول المثل القديم "جزاء سنمّار" الذي يُضرب للمُحسن يُكافأ بالإساءة وذلك بكشفه عن سرٍّ يتعلق بعمله في بناء قصر الملك حيث لا داعيَ لكشف سرِّ المهنة. وتأويل الغانمي يطرح لنا أن أحد وجوه تأويل الحكاية يمكن أن يكون المهندس سنمّار هو ضمير النعمان وليس شخصية المهندس التي تداولتها أكثر التفسيرات، فيما يكون ضمير النعمان، مثل بوذا مشرّداً يبحث عن معنى وجوده- ص 40/41، ونحن مع رأي الدكتور ضياء في أن هذه النهاية تبقى غابة متقاطعة من دلالات لا حدود لها، وأمراً خاصاً بتحليل النص وتأويله حسب قراءاته المتعددة وأفق قراءة مؤوليه. أما الحكايات الأخرى فكانت حكاية امرئ القيس ومقتل أبيه، والبحث عن أوديب عربي. ويؤكد الدكتور ضياء أن كل ما طرح في الكتاب قد يقع هو الآخر خارج متناول بقية الناس من دون أن يلامس مكانة المؤلف المجتهد ولا قدرته النقديَّة التي عملت على توسيع دائرة التحليل والتأويل، فالكنز الحقيقي الذي تصدر العنوان، إنما هو الكنز الموجود في ثقافة الناقد وقدرته على التأويل، وليس في كنز الحكاية وحدها، وذلك دليل على سعة ثقافة الغانمي وقدرته على التقاط الإشارات التي لم يشر إليها أحد من النقاد من قبل في التأثر والتأثير.
أما الفصل الثاني فكان بعنوان: خزائن السرد وخيال لا ينقطع بين البحث في خيال شهرزاد، وخيال الباحث الغانمي، وقد كرسه للحديث عن كتاب ألف ليلة وليلة الذي عدّه واحداً من الأعمال التأسيسيَّة الكبرى في الأدب العربي والعالمي وأنه أسلوب مركب بالرغم من كونه يوهم بالبساطة، ولا مؤلفَ معلوم له.
ويحاور المؤلف لغة السرد في كتاب الغانمي التي عدَّ الدكتور طه حسين ما ماثلها من (الأدب الشعبي)، وهو لا يعني أنها تقع خارج المعتمد الأدبي وإلا لماذا أشرف عليها موضوعاً لأطروحة دكتوراه درستها الناقدة سهير القلماوي.
ويؤكد الدكتور ضياء أن حركة فكر الغانمي النقدي قد عملت بطريقة مكوكيَّة ذاهبةً آيبة بين الماضي والحاضر، بين القدامة والحداثة، وتمكنت أن تجد نفسها في منطقة السرديات العراقية والعربية المهمة التي تمثلها ملحمة جلجامش وألف ليلة وليلة، وعند هذين النموذجين يمكن التوقف حسب الدكتور ضياء لمعرفة كامل المشهد الفكري والفني الذي درجت عليه مصنفات الغانمي وكتبه كلها- ص 151. وأجدني مع الناقد الغانمي في الإعجاب بهذين النموذجين تشكيلاً ومضامين في ذلك الزمن المبكر الذي أبدع أساليب سرديَّة حركيَّة بشخصيات وفضاءات وديكورات لم يُتح لها أن تنال ما تستحق من دراسة وبحث وتحليل، ولا سيما من قبل المشروع الاستشراقي الغربي.
وتناول الفصل الثالث خمسة مباحث اهتمت بأوضاع اللغة منذ العصور القديمة حتى ظهور الإسلام، بينما تناول الفصل الرابع فاعلية الخيال الأدبي الذي يستمد حركيته من فاعلية الواقع، ومن الحضارة العراقية القديمة ومحاور أخرى، وتناول الفصل الخامس محاور مهمة في التراث البابلي في الأدب العربي و(العلاقة بين الآداب) بمعنى حواريَّة الآداب مالها وما عليها وليس الآداب بنصوصها حسب. وتناول الفصل السادس فلسفة التاريخ عند ابن خلدون والظاهر والمخفي في نص المقدمة، وابن خلدون والمفاهيم، وابن خلدون والهوية المأزومة في عصره، والتي ظلت مأزومة حتى اليوم بالرغم من كثرة من تناولها من الباحثين بالشرح والبحث والتحليل من أولئك الذين أكدوا حركيتها وتطور عناصرها وسماتها، رافضين جمودها عند سمات معينة.
وبأمانة الناقد الموضوعي يدوّن الدكتور ضياء في هذا الكتاب أنه قد تعلّم من المبدع العراقي سعيد الغانمي الكثير، واصفاً إيَّاه بالمقتدر الذي يمتلك الكفاءة الفكريَّة والمعرفة النقديَّة محققاً ومؤولاً وكاشفاً عن جوانب مهمة في تاريخنا وتراثنا المعرفي والإبداعي.