أحمد الجلبي: الرجل الذي دفع أمريكا لتغير النظام 1968 - 2003
علاء حميد إدريس
في البدء أود أن أقول إنني اخترت عنوانا يحاكي عنوان الكتاب، الذي يتناول سيرة السياسي أحمد الجلبي؛ ذلك لأن كتاب {أحمد الجلبي الرجل الذي دفع أمريكا إلى الحرب} يمثل وجهة نظر من زاوية أخرى، هي زاوية المؤسسات الأميركية التي لم تتقبل الجلبي ومشروعه السياسي." حيث تحاول هذه المقالة تقديم وجهة نظر مغايرة للكتاب الذي يقول: وكما عبر الجلبي في يوم ما أن معرفة أميركا تعتمد على فهم الصراع والتكامل بين المؤسسات الأميركية، لا سيما وزارتي الدفاع والخارجية، ولذلك لاحظنا أن محتوى الكتاب اعتمد على الجانب المناوئ لعمل وزارة الدفاع التي كان الجلبي قريبا منها، وعلى الرغم مما حققه الجلبي، إلا أنه ونتيجة لهذا الصراع ظل مشروعه مثار جدل ونقاش، ولعله يرتبط بعدة أسباب منها تغيير 1958، حرب الخليج الثانية، انفصاله عن سياقه الاجتماعي والنفسي، واضطراره إلى التنقل بين أكثر من مكان، جعله ينظر إلى السلطة والمجتمع في العراق برؤية مختلفة اعتمدت على القوة ومعانيها المادية والمعنوية والقدرة على مخاطبة الغرب.
ولهذا يأتي عمل منشورات داربين من باب عرض الوقائع والمجريات، التي رافقت تغيير النظام السياسي في العراق بعد 2003 بحلوه ومره. يشبه عمل الجلبي السياسي تاريخ العراق بعد 1921، إذ ما زالت ملامحه غير واضحة، وتحتمل الكثير من الجدل والنقاش من دون الوصول إلى صورة محددة.
الملفت في عنوان الكتاب "الرجل الذي دفع أميركا إلى الحرب" هو كيف أن رجلا استطاع جعل أميركا تغير نظاما، وتعيد تركيبه على أسس جديدة مختلفة عما أسس عليه العام 1921، إذن ما هي القدرات التي يمتلكها هذا الرجل.
هذا النص من مقدمة كتاب منشورات داربين، المترجم عن الإنكليزية الذي يتناول دور الجلبي ومكانته في مشروع تغيير نظام البعث، والذي يجعلنا نتأمل في ما قام به الجلبي منذ 1958 والى 2003، حيث نلاحظ التلازم الظاهر والخفي بين تغيير 2003، وأحمد الجلبي 1944 - 2015.
بما قام به من عمل وتأثير من أجل انجاز هذه اللحظة، الملفت بعد تحقق التغيير حصل شبه انفصال بين الطرفين "الجلبي – النظام السياسي الجديد"، وبات الجلبي يبذل جهدا من أجل ضمان وجوده في دائرة النظام، وكأنه انتقل من علاقة التلازم إلى الصراع من أجل البقاء فيه، قد يصعب فهم هذا الحال، الذي وصل إليه الجلبي دون النظر إلى جهده قبل 2003 وعمله بعد ذلك، إلى درجة أنه حتى الكتاب الذي من المفترض أنه ينقل وجهة نظر مغايرة لدور احمد الجلبي في احداث 2003 يعترف ضمنياً ابتداءً من العنوان أن دوره أساسي في تغيير النظام وإقناع أمريكا بذلك.
وقع تلقي ما فعله الجلبي في العديد من التناقضات، والتي تضعنا في تساؤل دائم، لماذا لم ينل الفاعل الأهم في انجاز حدث 2003 شيئا، وعلى الرغم من أن خلفه دوافع وأسباباً مهدت لتغيير النظام السياسي السابق، إذ ظل الجلبي بعيدا عن مركز النظام الجديد، إن مقارنة فعل الجلبي قبل وبعد التغيير تكوّن أمامنا صورتين لرجل واحد، ليس من السهولة العثور على صلة تجمعها.
شكل تغيير 1958 جزءا كبيرا من تصورات الجلبي عن السلطة والمجتمع في العراق، وأضاف المنفى أبعادا مختلفة لذهنيته، جعلته يفكر باسترجاع الذي ضاع منه قبل 1958، ولم يكن بالضرورة الذي ضاع ماديا، وإنما كان الانفصال عن سياقه الاجتماعي والنفسي، فضلا عن ذلك فقدان المكانة والدور الاجتماعي الذي حظيت بهما العائلة منذ 1921 - 1958، المتغير الابرز في حياة الجلبي حصل بعد استيلاء الجيش على السلطة في العراق، وأمست حياته تندفع نحو ثنايا تلك الصورتين، حيث يجمعهما التاريخ وتفرقهما السياسة، هذا الجمع والافتراق يصنعان معنى ودلالة التناقض، والتناقض هنا لا يدل على السيئ والجيد أو الصحيح و الخطأ، ربما نكتشف معنى التناقض في الصورتين من خلال الإجابة عن التساؤل الآتي، لماذا قام الجلبي بكل هذا الجهد؟
كان ممكن له الاكتفاء بما لديه من ميراث اجتماعي واقتصادي يغنيه عما مر به من محطات وصعوبات كادت تزيحه من الحياة في تلك الفترة أو تقضي على مستقبله الاجتماعي والسياسي.
ظهرت الصورة الأولى للجلبي في مرحلة التسعينيات وكانت بملامح سياسية، تعززت بعد حرب الخليج الثانية والذي عمل فيها الجلبي على صياغة مشروع المؤتمر الوطني العام 1992، وجعله إطارا يتخطى به خلافات المعارضة العراقية في المهجر، وأثبت هذا الجهد معرفته وقدرته على مخاطبة الغرب، وبالذات الولايات المتحدة الاميركية.
وظف الجلبي ذكاءه واطلاعه وصلاته، لكي يصبح المؤتمر الوطني منصة سياسية وتوجها اجتمعت فيه شخصيات وحركات سياسية.
أن مشروع المؤتمر يذكرنا بأطروحة المجلس الاعلى الاسلامي العام 1981، التي كانت مقابلة له وسبقته في التأسيس وتحمل نفس الوظيفة السياسية في السعي لمعالجة شتات المعارضة العراقية، ولكن المجلس لم ينجح في مسعاه لأنه تحول لإطار عائلي - ديني ثم بعد ذلك أصبح نقيضا وندا لحزب الدعوة، وعلى العكس من المجلس الأعلى، عمل المؤتمر على جذب الأشخاص وليس الأحزاب وبذلك تخطى العائلية، ولكن المؤتمر الوطني كرر أسلوب العمل السياسي الشخصي، والذي أصاب أغلب أحزاب السياسية المعارضة للنظام.
وعلى الرغم من تقبل الغرب – بريطانيا وأميركا – لما طرحه الجلبي حول تغير النظام السياسي في العراق، رفض الجانب العربي بتوجهاته القومية ذلك الطرح وراه انحيازا وميلاً لتصورات الجانب الغربي، وأنه يأتي على حساب أولويات الصراع مع إسرائيل وإيران؛ لأن نظام البعث بنظر التوجه القومي هو من كان يمثل الطرف العربي في الصراع.
أخذ تكتمل ملامح الصورة الاولى للجلبي في سياقها الغربي، ولكن بخلفية فيها الكثير من التحولات غير مكتملة بدءا من تغيير 1958 والتخصص في مجال الرياضيات إلى محنة العمل المصرفي والتحول إلى العمل في السياسة، قد نجد صلة غير معلنة بين ما طرحناه سابقا وأثر هذه التحولات في حياة الجلبي، استطاع الجلبي الإمساك بالتناقض وتوجيه نحو صياغة ما يريد عمله. مع حينما نقارن بين عمل الجلبي وقوى المعارضة العراقية، نلمس تغيرا قبل الجلبي وما بعده، فمنذ تسعينيات القرن الماضي حين زاد نشاط الجلبي وفعله من أجل إقناع الغرب أن نظام صدام بات خطرا على امن الخليج العربي، وجدت المعارضة العراقية أنها أمام تحدي اللحاق بما يقوم به الجلبي، يمكن نلمس جهد الجلبي آنذاك بما صنعه من مؤثرات وعوامل، التي أسهمت في أصدار الكونجرس الأميركي " قانون تحرير العراق" العام 1997 والذي أثبت أن للجلبي دورًا غير قليل في الوصول إلى هذا القرار.
الجلبي بعد 2003.. خارج السلطة
منذ إن عاد الجلبي إلى العراق وهو واجه تحدي مصادرة جهده الذي قام به قبل 2003، وكأنه أريد له القول لقد انتهى دورك، وألا بماذا نفسر ما حصل له بعد التغير؟
يطرح البعض ثنائيات من أجل تفسير ما مر به الجلبي من تهميش وإبعاد عن السلطة، هذه الثنائيات تحتاج إلى إثبات وهي " العلماني / الإسلامي " و" الغربي / الشرقي".
مع هذه الثنائيات التي طرحت أضيف لها محاور الصراع الذي جرى في العراق بعد 2003 أبرزها محور الصراع الإيراني – الأميركي، الذي يتابع حركة الجلبي بعد 2003 يشعر أن الصعوبة التي واجهها في العراق كانت أكثر وأصعب عليه، حينما كان يعمل من خارج العراق على إزاحة النظام. إن من أشتغل على تهميش الجلبي ثلاث فئات الأولى التي كانت تشاركه الهوية المذهبية والسياسية وهي الأشد عليه، والفئة الثانية التي حملته مسؤولية تغير النظام، والفئة الثالثة الجانب العربي الرسمي الذي رأى فيه شخصا أسهم في تغير منظومة سياسية استمرت، لأكثر من خمسين عاما في العالم العربي، واجه الجلبي بعد 2003 تحدي الحصول على قبول اجتماعي يفضي إلى شرعية سياسية تمنحه مكانة داخل النظام الجديد، ما حصل له لم يكن يوازي دوره وجهده قبل 2003، لقد عاد الجلبي بعد 2003 فردا بزخم الميراث، الذي كوّنه خلال عملية تغيير النظام المستبد، وهذا غير نافع في مجتمع تضخمت فيه الهويات الفرعية، وأصبح لا يأخذ بنظر الاعتبار العلاقة بين الإنجاز والحصول على موقع داخل السلطة، فعندما نقارن بين وبغض النظر إن كان مرفوضا أو مقبولا عمل الجلبي وإنجازه، وما قامت به قوى المعارضة قبل 2003 سنجد أن فرد مع مجموعة محدودة استطاع أن يؤثر ويشكل توجه وصل به إلى لحظة التغير، أما قوى المعارضة فكانت واقعة تحت وطأة التأثير العامل الإقليمي والصراعات الحزبية والداخلية، ولكن مع هذا الفارق الذي حصد منجز التغير قوى المعارضة الإسلامية والكردية، ووضع الجلبي في حالة شبه صفرية من العمل والانجاز وكأنه لم يقم بشيء يذكر قبل 2003.
نستطيع القول إن من منع الجلبي من قطف ثمار عمله وجهده هي ثلاثة عوامل " الهوية المذهبية، السياسة ، المجتمع " الغريب أن الجزء الأكبر من عمل الجلبي السياسي قبل 2003 انصب على رفع الحيف السياسي عن العراقيين الشيعة والقيود التي تمنع مشاركتهم في الحكم وإدارة الدولة، لقد عمل من يمثلون هذه الهوية من قوى سياسية وحزبية على تضييق مساحة حضور الجلبي سياسيا واجتماعيا، عبر استثمار تضخم الهوية المذهبية، لأسباب سياسية، والتي من خلالها وضع الجلبي في توصيف يضعف صلته بها، في السياسة وممارستها في العراق، ربما غاب عن ذهن الجلبي أنها قائمة على روابط عشائرية ومناطقية وحزبية، وهنا
اصطدم بمدى قوة هذه الروابط في تحديد مواقف المجتمع السياسية وخياراته
الانتخابية، أما المجتمع لقد انقطع الجلبي عن المجتمع العراقي منذ خمسينيات القرن الماضي، تركه فيه ملامح حضرية وطبقة وسطى ذات تعليم جيد، وعاد إليه وهو منهك اجتماعيا ونفسيا، بسبب الاستبداد والحرب والجوع وتغير بشكل كامل ملامحه، حيث أخذت العشيرة والطائفة والقومية هي من تشكل أسلوب تعامله مع الأفراد والحياة والسياسة.
وعلى الرغم مما اثاره الجلبي من جدل حول شخصيته ودوره في تغير النظام الديكتاتوري، ولكنه يبقى تجربة ملفتة بحاجة للفهم، لعلنا نصل عبرها إلى رؤية نحلل بها تناقضات العراق ومجتمعه ومحنته في السياسية، التي بات تمارس عبر المال والسلاح والاستقواء الإقليمي.