جمال العتابي
كانت حركة الفن تمتد وتتجدد من دون أن يكون في دوراتها ما يشير إلى مساقط الإبداعات، إلا في حدود ما تأتي به التجارب الرائدة من تأليفات تشكيليّة مستحدثة لم تكن قادرة تماماً على إستيعاب صورة الإنسان العراقي في تحولاته الوجدانيّة والفكريّة، كما أنها لم تستطع النفاذ إلى أعماق مجتمعه الذي بدأ يتغير.
كانت هناك نظائر أسلوبية من أشكال جواد، بدت وكأنها محاطة بحضوره الزماني أو موسومة بروح منهج إلهامه السحري، ولم يكن ممكناً أن تستمدّ تلك الأشكال ديمومتها من محيط التأثر البحت، من دون أن تفقد الشيء الكثير من غنائيتها التي كانت تنساب تلقائياً في أعمال الفنان المبدع، ولكنها برغم ذلك، صارت قناة إيصال أعادت لبعض الفنانين حالة التوازن مع العالم، كما منحت البعض الآخر روح الألفة بالإنسان، وهذا هو السر في ديمومة فن جواد سليم وخلوده، لأنه، بمعنى ما، يحمل في طياته روح الموروث الرافديني، والزمن الراهن، ومعطيات الزمن الآتي.
رحل جواد من بيننا جسداً، وبقي عمله الواهب المبدع، كل ما صبّه من جبس، وجسّده من خشب، وما نحته من حجر، كل ما جنحه من أخيله وما أحياه من أفكار ورموز تمثل حقيقتنا الزمنية القاهرة التي نحيا داخل أسوارها العجيبة مأسورين، غير أن الأسوار لا تفتأ حتى تمحى في فن جواد، ليلتحم الزمن بالإنسان، وتغدو الحياة في نظر أي منا أجمل وأمتع، ولعل موضوعاته الكبيرة التي أنجزها لم تكن في جوهرها الا هي قصصيّة في حال، واسطورية في حال أخرى، لكنها لا تزال تخلد في أحلام الناس خلود تراثهم الروحي والنفسي، تنبعث منها أشعة الحكمة هنا، وتنساب منها ينابيع الحياة هناك، لتبقى أبداً ماثلة أمام ضوء الشمس ساطعة كأنها مولودة تواً.
لابد من الاعتراف من أن حركة التجديد في النحت العراقي ارتبطت بتجارب جواد سليم، وجيل آخر من طلبته تأثر بأسلوبه ومنهجه في النحت، وهناك تجارب نحتية سبقت جواد والرحال ومحمد غني، لكنها في الغالب لم تحقق تكاملها الفني المطلوب، فتلك التجارب كانت تقلّد وتحاكي النماذج الغربية من دون ابداع. بينما لخصت عبقرية جواد سليم وجيله في استعادة الماضي، فكان النحت العراقي منذ خمسينات القرن الماضي يمثل حقيقة التطور الاجتماعي، إذ وجد عدد من النحاتين أنفسهم إزاء أسئلة العصر، عن مغزى النحت، ودوره في الحياة. والبحث بقلق واضح عن الشكل الرامز لطموح الفنان في تحقيق شخصيته لتنسجم وروح العصر. بمعنى أن ثمة صلة مباشرة لازدهار النحت العراقي بمقدار تأثر طلبة التشكيل العراقي بأساتذتهم في أوروبا، ولعل في مقدمة هؤلاء الأساتذة الفنان النحات الانگليزي هنري مور الذي يعدّ من أبرز نحاتي القرن العشرين الذي تتلمذ على يديه الفنان جواد سليم، فأثرى قدراته ومواهبه على التعبير النحتي، بما هو جوهري وإنساني.
لقد دفع اكتشاف الكنوز الآثارية فن النحت في العراق إلى البحث عن خطابه وهويته كقوة تعبير، وكان لا بد للفن العراقي من طابع إنساني أشمل، ووجه وطني خاص يؤهلانه للبقاء والنماء، كما يذكر ذلك الفنان الخالد جواد سليم.
أما على صعيد آخر، لم يحدد جواد سليم نمطاً شكلياً واحداً للتعبير عن أفكاره ومشاعره في الرسم، بل يمكن ملاحظة تجريبيته المغامرة والرائدة في مختلف الأنماط، والاتجاهات، فمن الرسم الانطباعي إلى التعبيرية، ومنها ينتقل إلى التعبيرية الرمزية، ويمكن للدارس أن يحلل كل اتجاهاته ومصادره ونتائجه، والتعبيرية في رسومات جواد سليم واضحة، والسؤال عن مصادرها يقودنا إلى مرجعيتين، الأولى: التعبيرية العالمية، والأخرى: الواقع الاجتماعي السائد أنذاك، حالة قلقة ومتفجرة منحت جواد قدرة التعبير عنه وفق تلك المؤثرات ليتخذ من التعبيرية نمطاً صريحاً يعالج عبره الموضوعات الإنسانية والجمالية.
في لوحة (نساء وشخص مصلوب) تعبير صارخ ضد الموت، ومواجهة العذاب، وفي لوحة(رؤوس إنسانية). يتصاعد النداء الداخلي للإنسان في محنته الوجودية، هناك قوة خفية منحت جواد إبصاراً يكشف فيه عن عمق التحولات والتناقضات، من حيث هي حركة شاملة تتضمن قوانينها الخفية والمعلنة.
في الذكرى الثالثة والستين لرحيل جواد سليم، تستعيد الأوساط الثقافيّة والفنيّة منجزه الفني وتحولات التجديد فيه على مدى سنوات عمره القصير، ومن النادر جداً أن نجد المواقف ومن كل الأطراف متفقة تماما في أهمية هذا المنجز الفني، إذ غالباً ما تتباين الأفكار وتختلف الآراء حول أهم مشاهير الأدب والفن، رغم أن العالم تغيّر عميقاً، طوال هذه الحقبة الزمنية المديدة، التي تنقل جواد من دائرة الموت إلى وجود الحياة في ولادة جديدة لا ينالها الزمن بنسيان.
إن استعادة هذه الذكرى، هي استعادة في الوقت نفسه لواحدة من أهم صفحات تاريخ الفن العراقي المعاصر. إنها الألوان والطين والبرونز والخشب، وسحر اللحظات السعيدة، وهي التاريخ والصور الجميلة لماضٍ شكّله رواد النهضة العراقية. يظل متّقداً في فضاء حياتنا اليومية، متألقاً في أعماله، مغروساً فينا حتى هذه اللحظة.