منطق المعرفة
د. جواد الزيدي
صدر عن دار الفتح ببغداد كتاب يُعنى بالمقاربة الفكريَّة بين العلم والفن لمؤلفه د. محمد الكناني وبواقع 324 صفحة من القطع المتوسط، ويضم خمسة فصول رئيسة مع مباحث فرعيَّة توصل إلى الهدف المطلوب، إذ أثر متلازمة العلم والفن التي تحفر أثرها داخل فضاء المعرفة المعاصرة في ضوء جدل العلاقة القائمة بينهما سواء اتسمت بالتساوق أو الاختلاف، إلا أن مبدأ (الغياب والحضور) يسجل حضوره الأكيد على الضفاف المنظورة لكل منهما، مثلها مثل الثنائيات المتعارضة التي تحكم حركة العالم الخارجي وقوانينه التي تتراوح بين الثابت والمتحول، متضادة مرة ومتحايثة في أحيان أُخرى، لم تتمظهر ملامح
صراعها بشكل مباشر، وإنّما تتسم بالتخفي في ضوء هذا التنافس بين الظهور والتراجع لأحد حدي هذه المعادلة أو تلك، لكنها تظل ثنائيّة مترابطة لا يمكن فكّ الاشتباك بينها أو الخلاص من أحدها من دون الأخرى، بفعل قوانين الوجود التي تسمح بذلك، أو على الأقل المنطق الذي يحكم واقعنا المعيش.
كما يفترض المنطق المعرفي حواراً أو صراعاً بين العلم والفن وتحديد أولويّة أي منهما وتفوقه على الآخر، او الأخذ منه والتأثر به أو التأثير في الوقت نفسه، أو الفصل بينهما، بامتلاك كل منهما قوانينه الخاصة وقدراته المؤثرة في الحقول الأُخرى.
وبعيداً عن الشموليَّة أو المعرفة الكليَّة التي ينضوي تحتها كل من العلم والمنطق، فإنَّ الخوض في الجزئيات والتفاصيل هو ما تكمن به أسباب التشاكل أو الافتراق والانتقال من خصائص الفلسفة المجرّدة والفكر النقدي الى المعرفة الحدسيَّة المتعالية القابعة في جوهر الإبداع الفني الذي يغرف من الصوبين، صوب العلم في بعض تصيراته وتقنياته، وصوب الحدس الذي يحفر عميقاً في بنية المضامين وتعالقها مع العلوم الإنسانيّة بمختلف توجهاتها واقترانها بالعلوم الأُخرى مثل (الاجتماع والنفس والرياضيات) وسواها، من أجل تشييد خطاب بصري يحمل خصائصه الجماليَّة وينضوي تحت صيغ اللعب البريء في الأشياء العلويّة، وقد ينتهي به الأمر الى بلوغها أحياناً، وما الأشياء المرئية إلا أمثلة جزئية في الوجود الكلي، للتعبير عن دواخل النفس البشريَّة وارهاصاتها، أو ما تفرضه عناوين الحياة والواقع المعيش على الذات الإبداعيَّة الخلاقة، أو تنحو به صوب عناوين مجردة تكمن في الخيال والميتافيزيقا وسلطتها على المنجز الفني وتشكله برؤية جديدة.
ويمكن لنظرية المعرفة (الابستميولوجيا) أن تضع حلولها المعرفيَّة المتحركة، لكي تصل الى يقين جمالي في جوهره، ومتحرك، ودائم التجدد على مستوى الأداء الإبداعي أو القراءات التأويليّة البعديّة له، في ضوء الانفتاح المعرفي للنظرية على كل من العلم والفن وعلاقة الحدس الإنجازي بكليهما الذي يتجلى في الخطاب المرئي، انطلاقاً من نقطة البداية التي أشارت إليها الفلسفة الآيدونيّة، وصولاً الى آخر نزعات القراءة التأمليّة المتمثلة في فلسفة الرفض لدى عدد من الابستمولوجيين الذين يقف (غاستون باشلار) في مقدمتهم، ومبدأ الارتقاء المعرفي القائم على أُسس التكوين الابستمولوجي.
ولعل الاضافات المعرفيَّة قائمة أيضاً على تفعيل قيمة الزمن وأثره، وترديداته الأكيدة والمتوالية على النظرية المعرفيّة التي تختلف من عصر لآخر، من حيث مفارقة العناصر الجزئيّة (الأبستيمات) كما يدعوها (ميشيل فوكو) واختلافها من عصر الى آخر طبقاً للمعطى الواقعي والتراكمات المعرفيّة التي تصطبغ بها تلك الابستيمات، أو الجزئيات المعرفية وسماتها التي تشكل بنية النظرية الكلية.
وبالعودة الى سمات النظرية العلمية ومعاييرها التي تنتج عبر الاضافات والتراكمات النوعية على صعيد التجربة واستنادها الى معايير برهانيَّة وافتراضات (الاستنتاج، والتحليل، والاشتقاق) وغيرها من أُسس التجريب، ليضيف الحداثي والمعاصر الى القديم أبعاداً جديدة قائمة على إلغاء القديم وتجاوزه وإحلال الجديد بديلاً عنه، مع بقاء الأول جزءاً من الذاكرة العلميّة التي لا يمكن تجاوزها.
بيد أن معايير المعرفة في المنجز الفني تتحرك من نسقٍ لآخر وبحسب الاحلالات الزمنيّة وما تحمله من خصائص ابستمولوجية تُلقي بظلالها على المنجز الفني المُتحقق مهما كانت صيغته ومنهجه ودرجة تمثيله للواقع أو مستوى الفعل المحاكاتي له، إلا أنه يظل ملتصقاً بالواقع والعالم الموضوعي في ضوء هذا التباين الناتج عن الأُسس المعرفيَّة التي تُفضي إليها الحتميات التاريخيَّة وتخطها على جبهة الفن وتطلعاته الفكريَّة.
ولعل الموحيات الحداثيّة والمعاصرة جلبت معها خصائص فن جديد سواء على مستوى التشييد المرئي، أو على صعيد القراءات التأويليَّة بدءاً من بدايات القرن العشرين والنعوت التي أضفتها الشكلانيّة على العصر وحلولها بديلاً عن المضامين ووضع الشكل بكل ما يحمله من طاقة حدسيَّة في خضم الأولوية، فضلاً عن المناهج الحديثة التي حاولت واستطاعت دمج التفكير الفلسفي وانصهاره بالتفكير النقدي لتكون سمة لعصر آخر، استثماراً لمعنى البنيات العميقة والتكوينيّة وعلاقتها الجدليّة المترابطة مع البنيات السطحيّة لانتاج بنية شموليّة مكتفية بذاتها، وتجسيداً للمقولات السيميائيّة التي نظرت الى العالم بوصفه علامات تقترن بمرجعيات متعددة تمد أنساغها في الثقافي والاجتماعي والنفسي والميثولوجي والأسطوري، وانشطار أُفق العلامة في النظم الدلاليّة وتجميعها بكل ما رصدته في أعماق التاريخ النقدي، وحضوره داخل النصوص الدينيّة والأدبيّة، ومن ثمَّ النصوص الفنيَّة التي تنفتح على الحياة وآفاقها الواسعة.
تلك المقولات التي فرضت سلطتها على ذاكرتنا الثقافيّة والأكاديميّة بقوة المنهج ومكوثها على جدار المعرفة الحي، ومحايثتها للتطورات والتحولات الابستمولوجية التي مرت بها الإنسانيّة انتصاراً لفكرة الذاتية وتحولاتها لانتاج بنية شموليّة أضحت جزءاً من سمات كلية لهذه المناهج وطرائق التفكير الناقد، وبناء مفهوم الصورة التي عادت الى توظيف الهوامش المنسيَّة في أحيان كثيرة واتخاذها سبيلاً لوجودها الجديد في حياة اللوحة والعمل الفني، والاعتماد على الذاكرة بوصفها مادة أساسيّة لهذا البناء الصوري المتعالق مع العلوم جميعها.
ولذلك فإنّ هذه المحاولة النقديّة بجوانبها التنظيريّة والإجرائيّة / التطبيقيّة تعد من المحاولات الجادة التي تفتح الباب واسعاً للتفكير في أفق يحتمل الاضافات المعرفيّة، وكشف اللا مفكر به، أو المسكوت عنه في ضوء هذه المقاربات والبنى المجاورة التي تتحول الى بنى فاعلة في أحيان كثيرة من خلال تصدرها للمرجعيات القائمة في الفن، بما يضاعف القيمة الجماليَّة له، مع احتمالية النبش في المقولات
العلميَّة الأُخرى التي يُمكن استثمارها في تكريس أدوات العلم وقوانينه وتعالقها الايجابي المُنتج في حقل الفنون، على الرغم من وقوع الأخيرة (الفنون) في منطقة التخيل والحدوس التي يرفضها العلم أو يحاول تهميشها على أقل تقدير.