جدّتنا لوسي
شاكر الغزي
في عام 1960، اجتمع أربعة أصدقاء بريطانيين من مدينة ليفربول، هم: جون لينون، بول مكارتني، جورج هاريسون، ورينغو ستار، وكانوا جميعاً يجيدون الغناء والعزف على الغيتار، فشكّلوا فرقة روك غنائية أطلقوا عليها اسم البيتلز (The Beatles).
وكان لهذه الفرقة تأثير شعبي هائل أدّى إلى ظهور ظاهرة اجتماعية عُرفتْ بـ (هوس البيتلز).وحين تبحث في قواميس اللغة الإنجليزية عن كلمة (Beatles) لا تجد لها أيَّ معنى يُذكر؛ لأنّ كلمة البيتلز منحوتة من كلمتين هما: (Beat) و(Beetles). وإذا كانت كلمة (Beetles) تعني خنافس، جمع خنفساء، فإنّ كلمة (Beat) لها أكثر من معنى، منها: يضرب بقدمه على نحو متكرر، يطرق، يصفِّق، يقرع الطبل، يعزف، يؤدّي لحناً.
ولعلّ تسريحة (الخنافس) التي ظهرت في الستِّينيات والسبعينيات كانت متأثّرة بقصة شعر أعضاء هذه الفرقة وباسمها.
المهم، في عام 1966، عاد جوليان ــ الابن الأكبر لجون لينون ــ من الروضة، وكان عمره ثلاث سنوات آنذاك، وفي يده صورة رسمها لطفلةٍ معه في الروضة اسمها لوسي أودونيل، وعرض الرسمة على والده قائلاً: إنها لوسي في السماء مع الألماس!.
فاستوحى والده جون كلمته هذه، وكتب مع صديقه بول مكارتني أشهر أغاني الفرقة في عام 1967، وهي أغنية: لوسي في السماء مع الماسات
Lucy In The Sky With Diamonds)).
يُذكر أنّ لوسي أودونيل توفيت في 29 أيلول 2009، عن عمر 46 عاماً، بعد إصابتها بمرض الذئبة الجلدي، وهو مرض يصيب الجهاز المناعي.
رغم توقّف الفرقة في عام 1970، إلا أنّ شهرتها كأفضل فرقة روك شعبية ظلّت في تقدّم وازدهار في كلّ أرجاء العالم، حدَّ أنّ أغنية (لوسي في السماء مع الماسات) كانت تصدح يومياً من شريط مسجّل في مخيّمٍ للتنقيب عن الآثار في أثيوبيا عام 1974.
وفي صباح الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1974، قرب نهر أواش، في أحد الأودية الصغيرة في منطقة عفر (Afar) في أثيوبيا، عثر كلٌّ من موريس تابيب ودونالد جوهانسون على مُسْتحاثَةِ(1) أقدم هيكل عظمي، يعود تاريخه إلى 3.2 (3.18 – 3.22) مليون سنة، يُعتقد أنه من سلالة أسلاف الإنسان الحالي.
وتنتمي المستحاثة ذات الرمز (A.L.288-I) إلى أشباه الإنسان أو النوع الانتقالي (أَسْتَرالوبيثِكِسْ أَفارِنْسِسْ) (Australopithecus afarensis) إذ تشير كلمة (afarensis) إلى منطقة عفر الأثيوبية التي تم العثور عليها فيها. وقد سُمّيت هذه المُسْتحاثة باسم لوسي (Lucy) تيمّناً بـأغنية (لوسي في السماء مع الماسات) التي كان فريق البحث يستمع إليها يومياً.
مُجمل ما عُثر عليه من رفات يُشكّل 40 بالمئة من الهيكل العظمي للوسي(2) ، التي قُدّر أنّ طولها في حياتها يبلغ (107 – 110سم، 3 قدم و7 بوصات) ولا يتعدى وزنها (29 كغم، 64 رطلاً)، وقد اختلف العلماء إن كانت لوسي قرداً أم إنساناً، ولكنهم اتفقوا جميعاً ــ طبقاً لعظام الحوض ــ على كونها أنثى.
الذين يرون أنّ لوسي إنسان، استندوا إلى كون وجهها مسطّحاً، وحوضها مشابهاً لحوض أشباه الإنسان، وعظام الركبة والرضفة والفخذ تتلاءم مع النظام الحركي للإنسان الحديث، ومن المقطوع به أنّ لوسي كانت تمشي منتصبة على قدمين، لا على أربع (ما يُسمى بالإنسان المنتصب أو الهومو إريكيتوس) ولكنّ ذلك لم يمنع المعترضين من القول بكونها مجرّد قردة منقرضة؛ لأنّ حجم جمجمتها أصغر من حجم جمجمة الإنسان الحالي، ولأنه لم يثبت ــ بحسبهم ــ استخدامها للأدوات أو النار.
كما لوحظ أنّ عظام العضد والساعد والكتف تتشابه مع مثيلاتها عند القردة؛ مما يعني أنّ لوسي كانت تتسلّق الأشجار وتتعلّق بها، وهذه القدرة من خصوصيات القردة، ولا يمتلكها الإنسان الحالي؛ ما يعني أنّ الأطراف العليا للوسي كانت شبيهة بأطراف القردة، وخصوصاً الشمبانزي، أما الأطراف السفلى والحوض فتتطابق وظيفياً مع نظيرتها عند الإنسان، فضلاً عن التشابه الكبير مع عظام الأطفال، فقد استنتج سترن أنّ طول أصابع قدم لوسي يماثل طول أصابع طفلة عمرها سنتان.
ولكنّ أحد البحوث المهمّة التي أُجريت على لوسي عام 1990، والمتفق على نتائجها من دون اعتراض، أثبت أنّ لوسي إن لم تكن أقرب إلى الإنسان منها إلى الشمبانزي ــ أقرب القردة العليا إلى الإنسان ــ فهي بلا شكّ تقع في منتصف المسافة بينهما، فقد لاحظ كوري أنّ الإنسان يمتلك أذرعا أقصر من الشمبانزي (مقارنة بطول الأرجل)؛ إذ كانت نسبة طول عظمة الساعد إلى عظمة الفخذ (71.8 بالمئة) عند الإنسان الحديث، و(97.8 بالمئة) عند الشمبانزي، أما نسبة لوسي فبين الاثنين تماماً، وكانت (84.6 بالمئة).
وفي العام التالي لاكتشاف لوسي، أي في عام 1975، اكتشف العلماء 13 هيكلاً عظيماً تنتمي جميعها إلى جنس لوسي، فاحتملوا أنّ هذا الصنف أصيب بكارثة طبيعية كفيضان أو غيره أدت إلى انقراضه؛ وإذا صحّ هذا الاستنتاج فهذا يعني أنّ لوسي المنقرضة ليست بجدّتنا، ولكنّ المرجّح بين العلماء أنّ لوسي ماتت بسبب سقوطها من ارتفاع شاهق نظراً لوجود كسور في عظامها تدعم هذا الفرض، وأكّد الباحث جون كابيلمان ذلك بالقول إنه ينظر إلى لوسي كشخص لقي حتفه وليس كومة عظام.
ولهذا؛ فالاعتقاد السائد علمياً أنّ الإنسان الحديث يتحدّر من قارة أفريقيا حيث تمّ العثور على لوسي.
في عام 1976 أكّد أحد البحوث أنّ عظام الركبة والرضفة ولقيمات عظمة الفخذ عند لوسي تتطابق مع الصفات الحركية للإنسان الحديث، بالإضافة إلى قدرتها على فرد المفصل بشكل شبه مستقيم، التي تدلّ على سيرها منتصبة القامة على قدمين. وفي عام 1979م، ومن خلال بحث حول بصمة قدم لوسي، ثبت أنها كانت تمشي منتصبة وبخطوات متزنة، وإن كان يشوبها القليل من التأرجح كالشبمانزي والغوريلا.
ولكنَّ أبحاثاً لاحقة ذكرت أنّ قدرة لوسي على المشي منتصبة كانت أقلّ من قدرة الإنسان الحديث، وأنّ قدرتها على تسلّق الأشجار أقلّ من قدرات القردة العليا، غير أنّ قدرات لوسي على التسلّق أعلى من قدراتها على المشي على قدمين؛ وهذا ما دعا جونسون وإيدي إلى أن يقولا في كتابهما (لوسي، بدايات الجنس البشري)، بأنّ لوسي تمثّل مرحلة وسيطة بين القردة والإنسان. أما فلدسمان فقام بسلسلة أبحاث في عام 1982، استنتج من خلالها أنّ لوسي تمثّل نقطة الانفصال النوعي بين عائلة (Hominid) شبيه الإنسان وعائلة (Pongid) التي تضمّ الشمبانزي والغوريلا والأورانغ.
ومن الأبحاث الصادمة التي أُجريت على لوسي، هو ما توصَّلتْ إليه بيرج من خلال تصميم نموذجين للحركة العضلية لمحاور الحوض والركبة ومفصل القدم للوسي، النموذج الأول يمثل التوزيع العضلي للقردة، والثاني يمثل التوزيع العضلي للإنسان، بما يتناسب مع تكوين هيكل لوسي العظمي.
وكانت الصدمة أنّ التكوين العضلي الخاص بالقردة كان أكثر ملاءمة لهيكل لوسي، ويمكّنها من المشي علي قدمين بشكل أفضل من التكوين العضلي البشري! نظراً للاستهلاك العالي في معدل الطاقة المطلوبة لتحريك الفخذ مقارنةً بتثبيته.
وبالرغم من أنّ هذا التكوين العضلي يناسب المشي علي قدمين، إلا أنه يلائم الحركة فوق الأشجار بشكل أفضل، ممّا يشير إلى قدرة لوسي المتوازنة علي المشي والتسلّق. وذات الأمر أكدته أبحاث راف في ما بعد.
وكخلاصة، فمجمل ما أكدته الأبحاث والدراسات التي أجريت على لوسي، هو ما يلي:
1 - الأطراف العلوية: الانحناء الموجود في عُقَل الأصابع يتناسب مع القدرة على تسلّق الأشجار.
2 - الأطراف السفلية: لُقيمات عظام الفخذ السفلية للوسي، التي تكوّن جزءاً من مفصل الركبة، لها نفس التكوين التشريحي لعظام أطفال الإنسان الحديث، وتختلف كلياً عن عظام صغار الغوريلا والبابون والشمبانزي والمكاك.
3 - تكوين عظام الحوض والساقين والساعدين يؤهّل لوسي للمشي منتصبة القامة على قدمين كالإنسان.
4 - بالرغم من التشابه بين الصفات التشريحية للإنسان ولوسي، إلا أنّ قدرتها على المشي لا ترقى إلى قدرة الإنسان من حيث الكفاءة ومعدلات استهلاك الطاقة.
5 - احتفظت لوسي بقدرتها على تسلّق الأشجار بشكل يقارب قدرة القردة، ويتفوّق على قدرة الإنسان.
6 - حجم الجمجمة عند لوسي يعتبر كبيراً نسبياً إذا ما قورن بحجمها عند القرود، ولكنه يعدّ صغيراً نسبياً مقارنة بحجمها عند الإنسان.
7 - الاعتبارات التي تعدُّ ميزاتٍ بشرية، ويمكن من خلالها اعتبار لوسي أحد أسلاف البشر، هي: المشي على قدمين، استخدام النار، استخدام الأدوات، حجم الدماغ، شكل الوجه، ارتباط الرأس بالرقبة، وتفاصيل هيكلية أخرى.
الهوامش:
(1) المُسْتَحاثَة أو الأحفورة أو المتحجّرة أو السمبول (Fossile) هي بقايا حيوان أو نبات محفوظة في الصخور أو مطمورة بعد تحللها خلال الأحقاب الزمنية. ويطلق على علم حفائر الإنسان والحيوان (الباليونتولوجي)، ومعظم حفائر الإنسان والحيوان لا يتبقى منها سوى العظام والأسنان والجماجم، وقد تبقى لملايين السنين, ومن خلال الأحافير يمكن تحديد أصول وعمر الإنسان والحيوان.
(2) الهيكل العظمي المعثور عليه يشمل عظام الذراعين الأيمن والأيسر، وعظام الساعدين، بالإضافة إلى بعض عظام اليد اليسرى، وبعض فقرات الأصابع، والترقوة اليمنى. أما عظام الأطراف السفلى فتتكون من عظام العجز، وعظمة الحوض اليسرى، والفخذ الأيسر، والساق اليمنى، بالإضافة إلى أحد عظام مفصل القدم اليمنى. هذا بالإضافة إلى الجمجمة غير المكتملة، وبعض الضلوع والفقرات.