التّجديد في أدب الأطفال

ثقافة 2024/01/24
...

طالب كاظم

 ندرك أن التجديد في الكتابة للأطفال يعدُّ ضرورة ملحَّة، كيما نواكب المتغيرات المتسارعة التي تحيط بعالمهم، وهو الأمر الذي يتطلب وعياً بالعملية الإبداعية التي من شأنها أن تستقطب الطفل إليها وتستأثر باهتمامه وشغفه، علينا أن نُسهم في انقاذ طفولته من قبضة وسائل الاتصال “الحديثة” عبر مواقعها التي تروِّج التفاهة والابتذال على أنها ثقافة العصر، التي استولت على مساحات كبيرة من مخيَّلته البكر، وهو الأمر الذي سيترتب عليه تخريب وضرر لوعيه وتفكيره، إذ ستنتهي طفولته بوعي مشوَّه وتفكير مضطرب وذاكرة محشوَّة بالمسوخ ومراهقة بلا معايير، التخريب المعرفي الذي سيضع الأطفال في مواجهة غير متكافئة إزاء الصعاب التي ستعترض حياتهم فيما بعد.
 ندرك أن الحل ليس باليسر الذي نتمناه، فالمشكلة التي تعترض طريقه تتطلب حلاً ناجعاً لمواجهة النتائج السيئة حينما نهمل الطفل وهو يتخبَّط وسط الفراغ المعرفي، بسبب تجربته المحدودة ووعيه القاصر، إذ يتحتم علينا أن نكتب قصة للفتيان، مختلفة واستثنائية بمناخها وأسلوبها لتستأثر باهتمامهم، فضلاً عن الالتزام الأخلاقي والتربوي  بالخطوات التي من شأنها الحد من تأثيرات “ثقافة” التفاهة، و تفاقم تداعياتها على المجتمع بأسره.
لماذا الفكرة أولاً ؟
تتمثل خطوتنا الأولى بالتقاط الفكرة، التي تناسب التصوُّر العام للشكل الذي نرغب في أن تكون عليه قصتنا، وذلك لأننا نرى شكل القصة، الهلامي، وشخصياتها التي تنبثق أمام أعيننا قبل أن تتبلور لنا فكرتها، الأحداث المتخيَّلة تشكِّل اللمحة الخاطفة للشيء قبل أن يتماسك ويظهر في قصة أو سيناريو، هنالك الكثير من الأفكار، كل واحدة منها تعد موضوعاً لمنجز أدبي، ليس علينا إلا أن نختار فكرة واحدة، لتشكل حجر الزاوية أو مركز الإشعاع  الذي تنطلق منه الأحداث في أي قصة نبدأ بكتابتها ، لذا يتعين علينا أن نتأكد بأنها فكرة استثنائية، تشاكس الطفل الذي لم يغادرنا بعد، ما أن تعجبك الفكرة و لنفترض أنها كذلك، دعها تنضج على مهل، حتى اللحظة التي يحين وقت إخراجها للنور، تكون قد وصلت إلى خط الشروع للبدء في كتابة قصتك الجديدة، الآن، تحت يدك فكرة ناضجة لقصة مسلية، إلا أنها لاتزال قصة غير مكتملة الملامح ، لذا فإنها قد تكون قصة غير مشوِّقة ولا تستأثر باهتمام الأطفال لأنها قصة بلا مشكلة، التي بدورها ستخلق عقدة تمهد  لتصاعد الأحداث من بؤرتها المؤثرة، وهو ذلك الأمر، الذي لا ينتبه إليه البعض من كتّاب قصة الطفل، إذ نجد أغلب قصصهم تتحدث عن مفاهيم عامة عبر قالب قصصي يسير بوتيرة واحدة، خالية من التشويق وتعتمد على موروث أدبي كلاسيكي، يستند على دور شخصية الواعظ الذي يسدي نصائحه عبر المتن المكتوب، فالديك داجن نشيط يستيقظ قبل الجميع، ويطلب من سكان المزرعة النهوض من الفراش للذهاب إلى الحقل!!  هناك الأرنب والسلحفاة والدب البدين الخ، تلك القصص التي يعوزها الكثير لتكون قصة تلهم الأطفال ، وتشحذ مخيَّلتهم بالصور والعوالم الخيالية، يوجد لدينا ميراث كبير من القصص والملاحم التاريخية بعوالمها الاسطورية، التي تمكننا من توظيف أجمل الحكايات والقصص، إذ يمكننا الاقتباس والتصرّف بخيوط الحكاية، لنحقق متعة القراءة والتشويق والتجربة المضافة، أغلب ما يقدَّم للطفل سيعمِّر طويلاً في مخيَّلته، مثلما سيتذكر المفترقات المهمة في حياته، سيتذكر الأبطال الذين قرأ ما كُتِب عنهم لوقت طويل، لأنهم ببساطة شكلوا في مخيلته صورة الرجل الذي سيكون عليه فيما بعد، ما زلنا حتي يومنا الحاضر نعيش أحداث القصص الكلاسيكية، التي أثرت طفولتنا بعوالمها الخيالية، قصة رحلات جليفر  وروبنسون كروزو وقصص كليلة ودمنة والسندباد وغيرها الكثير من القصص وكتابها من هانز كريستيان إلى مارك توين وتولستوي وغيرهما.
حينما نعالج عقدة القصة، يجب علينا أن نعي اشتراطات عملية بناء شخصية الخصم، الذي يمثل أغلب الأحيان، كل شيء سيء ومدان، إنه الشرير الذي يخطط للإيقاع  بشخصية البطل الشجاع، وهنا يتطلب منا أن ننتبه لذلك المفصل المهم الذي يشكِّل أحد أهم عناصر القصة والذي يتمثل بشخصية البطل الطيب وشخصية الشرير، أحدهما نقيض الآخر، إلا أنهما يتمتعان بالقوة نفسها، لأننا نريد صراعاً متعادلاً في ما بينهما، إن عدم تكافؤ كفتي ميزان القوة بينهما، ستغلب كفة أحدهم على الآخر، وهو الأمر الذي سيحسم الصراع في بداية الحكاية، إن انتصر البطل الشجاع أو الخصم الشرير على حد سواء، الأمر الذي سيجعلنا نفقد التشويق والمتعة معاً، كيما نجعل من أحداث قصتنا أمراً مشوِّقاً سنعمل على تمكين الشخصية الشريرة من إلحاق الأذى بالبطل، لأسباب كثيرة، فالشخصية الشريرة بلا وازع أخلاقي، لذا نراه  لا يتورع عن استخدام جميع الطرق اللامشروعة، الأمر الذي سيمكنها، (الشخصية الشريرة)، من كسب جولتها الأولى، نحن بذلك جعلنا الأحداث تتصاعد وتصبح أكثر تشويقاً.
إطرح سؤالاً على نفسك : ماذا بعد ؟ أو كيف سننقذ البطل الطيب ونخلِّصه من محنته ؟ البطل الذي يترفَّع عن استخدام  الخديعة التي لجأ إليها الشرير،  ببساطة إنها عقدتنا، ويجب علينا أن ننقذ البطل  قبل فوات الآوان !؟ لأننا ندرك أن الكتابة للأطفال لاتشبه الكتابة للكبار وتختلف عنها اختلافاً جوهرياً في اشتراطاتها التربوية والأخلاقية، ففي قصص الأطفال، الأشرار لا ينتصرون أبداً، يتعين علينا أن نأخذ ذلك الأمر بنظر الاعتبار، كما يشترط علينا الابتعاد عن فكرة إنقاذ البطل حين يقع في مأزق ما بالوسائل السحرية، كما يحدث في قصص الأطفال الكلاسيكية الخيالية، ففي قصص اليوم لا نجد الساحرة الطيبة التي  تنقذ الموقف بلمسة من عصاتها السحرية التي تنتهي بنجمة لؤلؤية.
الطفل سيتسأل عن طريقة ما لإنقاذ البطل؟ طالما بطله لا يستطيع إنقاذ نفسه، توجد العديد من الخيارات التي يستطيع الكاتب اللجوء إليها، ليكن أحدها خياراً واقعياً ينال قبول جميع الأطراف، القارئ والكاتب وتسلسل الأحداث التي تتصاعد صوب نهايتها السعيدة ، سنرى أن الجميع سيسارع لإنقاذ البطل، الذي سيسترد حريته، كرد لجميل قديم، بينما ندع الشخصية الشريرة تلوذ بالفرار، لندع الأشرار يهربون، الطفل هنا، سيعرف أن الشر طليق وسيعاود الظهور مرة أخرى لممارسه ألاعيبه الشريرة، متى ما حانت له الفرصة لفعل ذلك، هذه إحدى النهايات التي نختم بها أحداث قصتنا، أخيراً البطل الشجاع سيعود إلى قريته، غابته، مملكته بينما الشخصية الشريرة  تلوذ بالغابة الموحشة أو بالجبل المظلم البعيد أو ندعه يبحر بمركب شراعي في الأوقيانوس الهائل بينما الشق الثاني من النهاية السعيدة الأخرى، سنجعل الشخصية الشريرة  تقرّ بذنبها أما الملأ  وتطلب منهم الصفح ، فالشخص الشرير سيبرر ذلك بقوله، بأنه سيعود مواطناً صالحاً في قريته أو غابته أو كهفه.. الخ و تنتهي قصتنا والسعادة تغمر الجميع .  
ندرك أن الكتابة الأطفال، ليست بساعة يقضيها أحدهم في جلسة  تأمل وهو يتخيل أحداثها على طريقة الرسوم المتحركة، الفقاعات تحلق  فوق رأس المؤلف، فيما الأرانب المرحة تنبثق من الغيوم كما يحدث في قصة  أليس في بلاد العجائب.
إذ تتطلب الكتابة للأطفال، تصميماً وخيالاً لكي لا يفقد الكاتب وجهته، إذ عليه أن يضع في نصب عينيه الاعتقاد الذي يذكره على الدوام: أن الطفل شخص ناضج يفتقد التجربة بسبب خبرته الحياتية المحدودة ، فلا تدع الدجاجة التي  تقود فراخها عبر البحر تسخر من وعيه بينما الأشرعة تتمزق ينتظر القرش تفكك السفينة ليلتهم الجميع، نعرف أن على الكاتب أن يحقق اشتراطات التشويق فضلاً عن المتعة في قصصه، علينا أن ندع الطفل يدرك عبر قراءة القصة وربط تسلسل أحداثها أن الخطر يحدق بالبطل الشجاع ، الذي يجهل ما يحيط به من مخاطر، لأن الطفل يعرف ما يخطط له الشرير للإيقاع بشخصية البطل في الفخ ، الأمر الذي سيدفع به إلى متابعة الحكاية بشغف، كيما يعرف ما ستؤول إليه أحداث القصة، علها تُناقض توقعاته وينجو البطل من فخ الشخصية الشريرة.
عندما تكتب قصة تمتلئ بالبطولة والمغامرة ،عليك أن تتذكر بأن أغلب ما تقدمه للطفل سيتذكره حتى نهاية حياته، فلا تعمل على عرض ما قد يسيء إلى براءته وطفولته وذلك عبر حشو غير ذي أهمية، أن المُثل الإنسانية لا تولد معه كالغريزة ، وذلك ما يتوجَّب عليك أن تعرفه بشكل جيد وأن تقدمه لهم بصورة قصصية  مشوقة.
حينما يتطلب منك أن تصنع حدثاً بإيقاع متصاعد، اترك الأحداث تصنع مشكلتها، فإن قصة الفتيان ليست تمريناً لأسئلة مبسطة تختبر بها صبرهم على مواصلة  قراءة قصتك، والذي سينتهي الأمر بهم بالفرار من الحكاية المملة ، مثل ، قالت الدجاجة  لصديقتها الدجاجة البيضاء  أن جارها الديك يزعجها بصياحه، ولكن صديقتها قالت لها إن الديك يدعونا بصياحه إلى  النهوض  مبكرين  مع شروق الشمس للعمل في الحقل ؟!!  وتنتهي القصة على هذا المنوال الرتيب الممل، أين تكمن المشكلة ؟! أين جرت الأحداث  وماهي العقدة التي باتت أصعب حلاً بل أين الحل الذي تنتهي به حكايتنا ؟ لذا يتعين علينا أن نصنع مشكلة تشد انتباه الفتيان إليها وتعمل على استقطابهم إلى أحداث القصة، طالما أن هناك العديد من المشكلات التي ستعترضهم،  لندع الأحداث تتصاعد، فما بين سطور حكايتك سنجد ثمة صراع يحدث بين الأضداد .
تستطيع أن تسرد قصتك بجمل طويلة، اختار الكلمات الجديدة، التي لم يقرأها بعد، التي تتطلب تفكيراً لكي يفهم معناها وفقاً للسياق الذي وجدت فيه، مهمتنا الأخرى تتمثل بإثراء قاموسه اللغوي ،  فالطفل يحب الوصف، ولا وصف بلا كلمات ، الوصف الذي يجعله يحلق بخياله، لأنه سيحول الكلمات إلى مدن وشخصيات يحاكيها بخياله، دعه يرى المكان عبر وصفك ، إجعل الحوار بين الشخصيات موجزاً، لكي لا تشتت تركيزه، ضع حلاً للمشكلة التي صنعتها التي بدورها ستعمل على حل العقدة ، لكي تحرر المتعة التي ستشعر الطفل بالغبطة.
تُعد الكتابة للطفل، مهمة إبداعية وأخلاقية، فلابد أن نكتب للطفل الذي كنا عليه، لذا علينا أن نستعيد طفولتنا وأن نستمتع بكتابة قصصنا وقراءتها أيضاً، ندرك جيداً أن الأطفال ماهرون في صنع عوالمهم الخيالية وهم يستمتعون جداً بخلق شخصياتهم الغرائبية أو عوالم الفانتازيا .
الكتابة للأطفال عملية إبداعية متواترة لانهاية لها، إنها الرسالة المعرفية التي نتناقلها عبر الأجيال، كما تأثرنا بإبداعهم ،سيتأثر أحدهم بإبداعنا وستتواصل الأجيال في حمل رسالتها الإبداعية طالما كان هناك فكر إنساني خلّاق، إن ما نقدمه للأطفال لابد أن يعيش طويلاً في ذاكرتهم ، إنه ببساطة يشبه النقش على الحجر .