أحمد عساف
ولد الفنان التشكيليّ مروان قصاب باشي في دمشق عام 1934، واستهواه الرسم منذ طفولته بكل شغف، حتى تنوعت لديه مواضيعه وأدواته، وبعد نيله للثانوية العامة درس في كلية الآداب جامعة دمشق، واثناء الدراسة عمل مع الفنان نذير نبعة، وبصحبة فنانين آخرين على تطوير الحركة التشكيليّة السوريّة، قبل تأسيس كلية الفنون الجميلة بأعوام.
استلهم من مدينته، مواضيع أعماله التي تخللها الكثير من الموزائيك وزخارف الأرابيسك الدمشقية، ومن ريف الشام الساحر جمال طبيعتها وهدوء بيوته، فرسم الطبيعة الصامتة وتألق في ذلك. وبعد نجاحه في مجال الرسم، استهواه عالم النحت، فشارك في المعرض الرسمي الرابع عام 1955 وفاز بالجائزة الأولى بدمشق، عن تمثاله "الجوع" الذي اقتناه المتحف الوطني، حيث كان من أوائل المنحوتات السورية التي لا تخضع للقواعد الكلاسيكيّة السائدة للنحت. انتقل قصاب إلى برلين عام 1957 ليدرس في المعهد العالي للفن التشكيلّي، ثم التحق بمرسم "هان ترييه"، وفي برلين كان يعمل نهارا في معمل لدباغة الجلود، بينما يقضي ليله في الرسم. مرت تجربه الفنان الذي أصبح اسمه العالميّ بمراحل عدة كرسمه للطبيعة الصامتة والاشتغال على الدمية.
وفي برلين أيضا كان انحيازه للواقعيّة التعبيريّة واضحاً في اشتغالاته الفنية على الأجساد البشرية، ثم ذهبت بعد ذلك إلى الانطباعية، فالسطوع المتوهج لظهور سرياليته الخاصة مع حفاظها على أسلوب في التبقيعات اللونية والخطية التي شكلّت علامة فارقة في مسيرته.
وكما يقول إن "مصدر لوحاتي هو إشارات خارجية، تتسلل إلى وجداني، وأبدأ بها، في تصورات البناء، إلى أن تتشكل على سطح القماشة الأولى، ثم أحاور هذه الألوان والأشكال، كي أصل لجواب نهائي، وكثيراً ما أحس بالندم، حين أعود إلى السطوح الأساسية للوحاتي، وكيف نسفتها برؤى جديدة، تبدو وكأنها خريطة للخراب والاغتصاب والحزن".
لقد أصبح اشتغاله الفني على رسم الوجوه والأجساد البشرية، التي اسماها (المتتاليات) متألقا وخاصة في رسم الوجوه (البورتريه)، على وفق ميزة فنية تخص ذاته الفنية، "أصبح الوجه في أعمالي صورة للعالم، وليس لشخص واحد"، إذ برزت وجوهه العمودية بخلفياتها ذات الصلة بطفولته الشامية، وعكست تجريبا وترميزا أكبر، وصولاً إلى "مرحلة الرؤوس" كما يسميها، وتحديدا حين يقترب أكثر من مختبره الحياتي والفني ويبدع حالات شديدة الحساسية ويلبسها لبوس وجهه وذاكرته.
ويضيف قصاب: فهمت في ذلك الوقت، أنني لم أكن مهتماً برسم البورتريهات بمعناها التقليدي، إنما بالقدرة الايحائية النفسية والعاطفية لشكل الجسم البشريّ باعتبارها مجازاً، أي قدرة الجسم على تجسيد توقنا الجنسي والاجتماعي والسياسي، والموانع المحظورات. ولكي أجنّب نفسي عملية مضنية تتمثل في اختيار الأشخاص الذين يظهرون في البورتريهات التي ينبغي أن أرسمها، بدأت أستخدم وجهي وجسمي كنموذج. وبذلك كانطباع أول، يفترض من يزورون محترفي أنني نرجسي.. وأنا لست نرجسياً.
ويتابع: تتغير علاقتي بالألوان مع الزمن، واستطيع أن أتحدث عن هذا بعد تجربة طويلة، والتغير يأتي عضويا، وهكذا يصنع الفنان لنفسه (باليته) أي مجموعة خاصة من الألوان. وهذه الألوان لا تأتي من المصنع مباشرة أو من الكيمياء، أنها من الأصابع من القلب، ثم من عملية اكتشاف مستمرة، ولا تخلو من عنصر المغامرة. وعن اللون الأسود يقول: للأسود معنى شعريا، وله صلة بالحزن والليل، أما تصعيده في وقت لاحق، في أعمالي التالية، فقد أخذ معنى جديدا، لقد حاولت في السنوات الأخيرة ان أصنع لوحات تمنيت أن تكون سوداء. وعن الأحمر يقول: الأحمر فخ، تضعه على الباليت يضيء، تضعه على اللوحة غالبا ما يحطمها، خاصة عندي.
قصاب هو من الفنانين القلائل الذين انتسبوا فكرياً وعاطفياً إلى عالم الشعراء والأدباء، ولعلّ كتابات هؤلاء هي التي أعطت نفساً جديداً وروحاً نابضة ورؤى متنوعة لوجوه مروان المتعبة والخالدة.
خلال حياته، كان أصدقاؤه المقربون كتّاباً، وينطبق ذلك على مسرحيات سعد الله ونوس، وقصائد بدر شاكر السياب، وأدونيس، وروايات عبد الرحمن منيف.
والواقع أنّ منيف كان صديقه الأقرب، وقد قال إن "مروان قصاب ينتمي لنوع نادر من الفنانين الذين يؤمنون، بأن الفن ليس مجرد جمال سابح في الفراغ، بل هو فعل أخلاقي يربط المتعة والفرح بالحقيقة".
ألف عبد الرحمن منيف عن قصاب باشي كتاباً ضخماً حول تجربته، ونشر لأول مرة عام 1996 بعنوان "مروان قصاب باشي، رحلة الفن والحياة". وعمل معه في مشاريع عدة، كان أبرزها كتاب "أدب الصداقة -2012" وضم ثلاثين رسالة متبادلة بين الصديقين، و "فنان تشكيلي يبحث عن طرق تعبير بالكلمات"، و "أديب مهووس بالفن يجرب في طاقة الكلمات على تعبير عن الخط واللون"، كما وصفهما الدكتور فواز الطرابلسي مؤلف المقدمة. تقول عزة عبد الرحمن منيف إن "الصداقة بين مروان ومنيف ليس لها حدود وقد تجاوزت البعد الزمني".
ولعلّ الحضور المتكرر لشاعر مثل السياب في رسومات مروان، لافت أيضاً فالسياب هو الشاعر الوحيد الذي رسمه بأكثر من بورتريه.
أهتم قصاب ومنذ زمن بعيد بمعاناة الفلسطينيين واللاجئين منهم، وخصص لهم العديد من لوحاته، وحاز على جائزة مدينة الفنون، في باريس عام 1973، عن كتابه "من مروان إلى أطفال فلسطين" الذي ضم توثيقا لمجموعة الأعمال التي أهداها لجامعة بيرزيت الفلسطينية ومركز خليل السكاكيني الثقافي برام الله، كما نشر له معهد غوته كتابا بعنوان "من مروان إلى أطفال فلسطين" وهو عبارة عن لوحات غرافيك قدمها الفنان لأطفال فلسطين.
في العام 2005 كرمه الرئيس الألماني بمناسبة إتمامه السبعين عاما من العمر، مانحا إياه وسام الاستحقاق من الفئة الأولى وسماه روح ألمانيا، وفي العام ذات عاد قصاب إلى دمشق، بتظاهرة فنيّة كبيرة رعتها المفوضية الأوروبية والمركز الثقافي الألماني "غوته"، و"غاليري أتاسي"، برعاية من وزارة الثقافة السورية، ومن ثم عاد إلى المانيا ليتابع مسيرته الفنيّة والحياتيّة حتى توفي في العام 2016 عن عمر ناهز 82 عاما، تاركا خلفه أهم الأعمال الخالدة في متاحف العالم. رحل مروان قصاب باشي، كواحد من أشهر الفنانين العرب، وصاحب النزوع التعبيري في إبداعاته التصويرية ولوحاته، كما قال عن نفسه "أنا رسّام آثار الوقت الذي يبقى".