ألم الخسارة.. الوجه المزدوج للحُبّ

ثقافة 2024/01/31
...

  ماريا بوبوفا

 تعريب: ملاك أشرف

الحزن هو ظل الحبّ الذي يلقيه في ضوء الخسارة، كلما كان الحبّ أعظم، كان الظل أوسع. إن الكثير مما نحن عليه - وما نكتشف أنفسنا عليه - يتشكل في ذلك الفضاء المظلم عندما نتلمس حافة ما لنتمسك بها، أو نقطة ضوء لنتجه نحوها. لأن ثمن العيش بكل إخلاص (وهذا هو السبيل الوحيد الذي يستحق العيش) هو الكثير من حسرة القلب والعديد من الخسائر، فقدان الحبّ للانحلال أو البعد، أو الموت؛ فقدان الجسد نتيجة الجاذبية والزمن - ولأن الخسارة تترك في أعقابها تجربة خاصة جدا لكنها عالمية جدا؛ فإن السجل المشترك للتجربة الإنسانيّة الذي نسميه الأدب مليء بالتأملات حول الحزن: من رسالة سينيكا التي يبلغ عمرها 2000 عاما لوالدته حول مفتاح المرونة في مواجهة الخسارة والخيبة، وعزاء لينكولن الاحتياطيّ والكئيب، ومذكرات الحداد لميغان أورورك، والتأمل البرازيليّ لنيك كيفان العاطفيّ حول مفارقة الفجيعة، ومع ذلك، كما كتبت الكاتبة الأميركيّة جوان ديديون في كتابها الكلاسيكيّ المتميز في هذا الموضوع: “تبين أن الحزن هو مكان لا يعرفه أحد منا حتى نصل إليه”.

لم يقم أيّ كاتب، في حياتي المعرفيّة برسم الحدود الكسرية للحزن بفارق بسيط ودقّة أكثر من إيميلي ديكنسون (10 ديسمبر 1830 - 15 مايو 1886) الشاعرة الحائزة على جائزة الحُبّ والخسارة، والتفاعل بين الاثنين، التفاعل بين الجمال والخوف في أن نكون على قيد الحياة بينما ننجرف يوميًا نحو الانجراف المسمى” اللا نهائي”.

في قصيدتها المدرجة في قصائدها الكاملة التي لا غنى عنها لإميلي ديكنسون، تعتبر الحزن تجربة حميميّة للغاية وعالميّة للغاية. كتبتها في عام 1862، عندما كانت موجة عارمة من الحزن تجتاح بلدها المُمزق بسبب الحرب، وبينما كانت ديكنسون نفسها تخوض أعمق حالات الحداد والأكثر غموضًا في حياتها الشجنة، ظلّ بعض “الرعب” من القلب الذي شعرت بهِ وخضعت له. كانت ديكنسون شاعرة عظيمة، بقيت حياتها لغزًا، تعطي القصيدة صوتًا للتزامن المُستمرّ بين هذين المقياسين للوجود- المطلق والنسبيّ- حين نحفر في جوف خسائرنا الفرديّة ونمرّ ببعضنا بعضًا في الساحة العامّة للمأساة الإنسانيّة:

أقيس كُلّ حزن أقابله

بعينين ضيقتين وثاقبتين

أتساءل عمّا إذا كان وزنه مثل حزني

أم أن حجمه أسهل؟

أتساءل عمّا إذا كانوا يتحملون ذلكَ لفترة طويلة

أم أنه بدأ للتو؟

لم أتمكن من تحديد تاريخي 

إنه شعور قديم جدًا بالألم

أتساءل عمّا إذا كان العيش مُؤلمًا 

وإذا كان عليهم أن يحاولوا 

وما إذا كانَ بإمكانهم الاختيار بين ذلكَ

لن يكونَ الموت 

ألاحظ أن بعض الناس غير صبورين 

أخيرًا جدّدوا ابتسامتهم؛

تقليدًا للضوء

تقليلًا للطاقة

أتساءل عمّا إذا كانت السنوات قد تراكمت 

بضعة آلاف من الضرر الذي ألحق بهم الأذى مُبكرًا

يمكن أن تمنحهم مثل هذه الهفوة أي بلسم 

أم ستستمرّ مُعاناتهم؟

عبر قرون من الأعصاب 

مستنيرين بألم أكبر 

على النقيض من الحُبّ 

الحزانى كثيرون قيل لي 

هُناك سبب مُختلف 

الموت هو واحدٌ فقط ويأتي مرَّة واحدة فقط 

ولا يُسمّر إلا العيون 

هُناك حزن العوز وحزن البرد 

إنهُ نوعٌ يسمونه “اليأس”

هُناك النفي من عيون السكان الأصليين 

على مرأى من الهواء المحليّ 

وعلى الرغم من أنني قد لا أخمن ما نوعه 

بشكلٍ صحيح إلا أنه يوفر لي راحةً خارقة

عند عبور الجُلجثة 

لمُلاحظة موضة الصليب 

وكيف يتمّ ارتداؤها في الغالب 

ما زلتُ مفتونةً بالافتراض

بعض الأشخاص يحبّون مثلي.

أعادت ديكنسون النظر في الطبيعة المتعدّدة الأوجه للحزن من خلال التصنيف الشخصيّ للحزن والصمت الكبير، حيث في قصيدة أُخرى كتبتها في عام 1862 وهي السنة الأكثر خصوبةً من الناحية الإبداعيّة في حياة ديكنسون، التي عالجت فيها “رعبها” غير المسمى بوساطةِ فنّها، كما يفعل جميع الفنانين قامت بتوسيع وعي الحداد المنقبض إلى تذكير منظوري بأن يوجد جانبا آخر حتّى أعمق الألم. أن كُلّ شيء، ومن ضمنه المشاعر الغامرة، تمرّ وتنمو مع تجربة جديدة؛ إن ألم الخسارة هو الوجه المزدوج للحُبّ، وكلاهما جزء متساوٍ لا ينفصل عن الحياة:

(من الجيد أن ننظر إلى الحزن

لتحمل يوم واحد مرَّة أُخرى

اعتقدنا أنها ستكون جنازة عظيمة

من كُلّ الفرح الذي يمكن تخيله

دعونا نتذكر كيف

تدخل العشب المشغول واحدًا تلو الآخر 

حتى لوح كُلّ الحزن بالصيف 

ولم يتمكن أحدٌ من رؤية الحجر.

وعلى الرغم من أن الويل الذي تعيشونه اليوم

يكون أكبر كما يتجاوز البحر

قطرته التي لم تُذكر

فهما ماء على حدٍّ سواء!

يجب أن أفهم 

ما الشيء المؤلم الذي حيرني 

لماذا لم تنكسر السماء 

واللون الأزرق يقعُ عليَّ؟

•••

كُلّ ما نفقده يأخذ جزءًا منّا؛ 

لا يزال الهلال قائمًا، 

مثل القمر، في بعض الليالي العكرة 

المدّ يُناديه).

أمضت ديكنسون ساعاتها برفقةِ لُغتها الجزلة تُراقب العالم من نافذتها المُحبّبة، تسخر من خداع المارّة وتقلّب الطبيعة، يتسلّل الإحباط والأسى إلى نفسها فتكتب قصائد في مُنتهى الدقّة والعمق وغالبًا إلى حدّ التهكم والملل لاسيما وأن موهبتها الأصيلة وعبقريتها الرهيبة كانا فريدين لا جدال فيهما.  كما اتخذت من الشِّعر الوظيفيّ بيتًا مُنعزلًا لها، إذ كوّنت شِعريتها اللا مُتناقذة في الأفكار وأسلوبها الفنيّ الفذّ الذي لم يعد أحدٌ يكتب بمثل هذا الإتقان، أثبتت متانة كلماتها وقوة صياغتها عن طريق خلق مقاطع شِعريّة لافتة وغريبة حيث مثلت المرأة المُنعزلة غير القابلة للانتهاك بجدارة.إن المكان جزء لا يتجزّأ من(أنا) الشّاعر والفنّان الدراميّ عمومًا كما أنهُ ضربٌ مُهمٌّ من مُغامرة اللُّغة ومواقفها، يكنُّ المعنى لهُ بالكثير.

نعيشُ بفضلِ الشِّعر والأصوات الشاعريّة المُغتربة، لا يُوقظنا من أحلام الرماد إلّا هما؛ ذلك لأنّهما يعيدان لنا الحضور المُمتلئ بالسفر والنقاء!

تملأ القصائد المُتبصّرة الخواء السحيق، تُخلّصنا من الحقيقة الجارحة وكأنّها تؤجّل الزمن فعلًا أو تلغيه وعليهِ نضطر أن نكتبَ الشِّعر مثلما يلوذ الفنان بالغناء البهيّ؛ كي يحصنه ولو قليلًا من موج الأحزان والمُعاناة، ينتشله من الهواجس المُدمّرة ودير الضجر، يكون حضانةً جديدةً للجسدِ المُفتت، أمّا الشِّعر” فهو العزاء الأنقى والملجأ الأشدّ رسوخًا” لطرح الرغبات المكبوتة فيهِ على الدوام، إضافة إلى أنه الوسيلة الوحيدة لإكمال ما تبقى من الحياة بما أن الحزن قادر على التمدّد والتوسع في الأوقات كافّة وعلى وجه الخصوص في خلوة النفس الاختياريّة، التي تغيّب المرء عن العالم الخارجيّ المريض والمُنافق.

*المقالة من تأليف الكاتبة ماريا بوبوفا والمُترجمة نفسها