المثقّف العراقي.. بعد التغيير

ثقافة 2024/01/31
...

أ.د. قاسم حسين صالح *



يعدُّ العراق بلد الشعر والشعراء، ولا يمكن لبلدٍ هو موطنُ الشعرِ والشعراءِ ما لم يكن أهله مثقفين، وقيل حديثاً: مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ.

والتساؤل: كيف هي حال المثقف العراقي بعد عشرين سنة عاشها في ظلِّ نظامٍ ديمقراطي تحكمه عمليَّة سياسيَّة تقومُ على المحاصصة والطائفيَّة؟

في مقالٍ سابقٍ أشرنا الى أنَّ  النظام الدكتاتوري اعتمد ثقافة الحاكم الواحد والحزب الواحد، وحصل بعد سقوطه أول تحول سايكولوجي بظهور (ثقافة الضحيَّة) التي صنفت العراقيين الى ضحيتين هما الشيعة والكرد، وإنّ على الضحيَّة المظلومة أنْ تقتصَّ من الجلاد الظالم الذي هم السنّة.



وحصل ما كنا حذرنا منه في حينه يوم قلنا لمن هو في السلطة بأنَّ انتصار الضحيَّة على من تعدّه جلادها سيدفعها سايكولوجياً الى التعبير بانفعاليَّة في تضخيم ما أصابها من ظلم، وستشرعن الاقتصاص ممن كان محسوباً على الجلاد. وكالعادة فإنَّ سايكولوجيا السلطة في العراق لا تأخذ بما يقوله المفكرون وعلماء النفس والاجتماع، فكان الذي تعرفونه من الكوارث والفواجع.

بعدها بسنة، أي في العام 2004 ظهر التحول السايكولوجي الثاني الذي تمثل في (ثقافة الاحتماء)، فبعد أنْ تعطلَ القانون وصارت الحياة فوضى والسلطة لمن هو أقوى في الشارع، اضطر البغداديون - بشكلٍ خاصٍ - الى أنْ يغادروا بغداد ليحتموا إما بالعشيرة أو المدينة التي ينتمي لها، كأنْ يذهب الراوي الى راوة مثلاً.

ومن يومها تراجعت ثقافة الانتماء للوطن التي توحّد، وشاع وتعمّق أخطر تحول سايكولوجي هو (ثقافة الولاءات المتعددة) التي فرّقت العراقيين وأوصلتهم الى أبشع حالٍ تمثلت في احتراب الهويات القاتلة لسنتين كارثيَّتين (2006 - 2008). ومن يومها أيضاً تراجعت ثقافة المواطنة التي سدَّدَ لها بريمر ضربة ثقافة التثليث (شيعة، سنّة، كرد)، وثقافة التسامح وثقافة الحوار، لتظهر ثقافات متعددة الأسماء:

ثقافة التحرير، ثقافة الغزو، ثقافة العمالة، ثقافة الإرهاب، ثقافة المقاومة، وثقافة كاتم الصوت. وكان أقبحها هي ثقافة الطائفيَّة التي وزعت العراقيين الى جماعاتٍ تفرقها ثقافة التعصب وتجمعها ثقافة الكراهيَّة.

ثقافة الحول العقلي

أوصلتنا متابعتنا للعمليَّة السياسيَّة وحال الثقافة في العراق خلال العشرين سنة الماضية الى ابتكار مصطلحٍ جديدٍ في علم النفس هو (الحول العقلي)؛ ويعني أنَّ المصاب به يرى الإيجابيات في جماعته ويغمضُ عينيه عن سلبياتها، ويضخّم سلبيات الجماعة الأخرى ويغمضُ عينيه عن إيجابياتها، ويرى أنَّ جماعته، طائفته، قوميته على حقٍ والأخرى على باطل، وأنَّ هذه الأخرى هي سبب الأزمات مع أنَّ جماعته شريكٌ فيها.

في البدء، كانت ثقافة الحول العقلي مقتصرة على حكامٍ تسلموا السلطة بعد 2003، ثم انتشرت عدواها بعد  العام 2008 وبدءاً من العام 2008 لتصاب بها كتلٌ سياسيَّة وفصائل مسلحة، كل واحدة ترى أنَّ فكرها، عقيدتها، رؤيتها للأمور هي الصح والأخرى زندقة أو ضلالة أو غباءً، واشتدَّ هذا الحول في العام 2019 ليوصل الجميع الى أن الحكم للسيف لا للعقل، فحصد السيف رقابَ المئات، بينهم قادة قومٍ وشبابُ فكرٍ وأبرياءٌ وصبايا وأحداث، وأمهاتٌ وحبيباتٌ مفجوعات. ووصل الحال الى أنَّ أهل العراق ما عادوا (أهل نظرٍ وفطنة) كما قال الجاحظ، بل أنَّهم أصيبوا بالحول العقلي، والأخطر أنَّ عدوى الحول العقلي أصابت وزارة الثقافة، وأصابت مثقفين يعدون أنفسهم (قامات)، وآخرين ينتمون الى منظمات معنيَّة بالثقافة التنويريَّة ومؤسساتٍ علميَّة بعضها يترأسها (أحول عقل) خالص. وانتقل (الحول العقلي) بالعدوى عبر عشرين سنة ليصيب حتى من كان يعدُّ نفسه تقدمياً.

استطلاعات رأي

في العام 2018 استطلعنا رأي جمهور الفيسبوك عن حال المثقف بعد التغيير، إليكم نماذج من إجاباتهم:

* المثقف العراقي يواجه ثقافة دينيَّة طائفيَّة عشائريَّة مدججة بالسلاح والمال والنفوذ لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.

* المثقفون لا يملكون قوة المال ولا غازاً مسيلاً للدموع والهجمة الآن ضخمة وقويَّة.

* بدون زعل، لأنَّهم لم يسمعوا كلام غادة السمان، فهاجروا ثم ذبلت أزهارهم هناك ولم يدركوا أنَّ الأشجار لا تهاجر.

* المثقفون، منهم من وجد ذاته بعيداً وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في وادٍ والجماهير في وادٍ آخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للأسف.

* لا يوجد تأثيرٌ للمثقف في سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتأثرون بخزعبلات الملّا والمشعوذ، والبعض منهم يعدُّ المثقف بأنه ينشر الكفرَ بين الناس.

* لا يوجد مثقفون في العراق، بل يوجد متعلمون يجيدون الكتابة و”اللغوة” في المقاهي والمطاعم والفنادق الشعبيَّة.

بعد خمس سنواتٍ وفي العام (2023) أعدنا الاستطلاع ذاته، إليكم نماذجَ من إجابات حرصنا أنْ تحملَ أفكاراً مختلفة:

* حسب رأي غرامشي: الأكثريَّة في المجتمع هم مثقفون لكنْ بثلاثة أصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعاً بعطاءٍ من السلطة وهم الأغلبيَّة في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الأخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.

* المثقف العراقي الحقيقي غائبٌ أو مغيبٌ في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والأمية بكل أنواعها. هناك مثقفٌ اجتماعيٌّ يحملُ همومَ الناسِ ويسعى إلى تغيير الواقع، وآخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي. أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئة الأكبر الآن، وهؤلاء يلعقون ما ترميه لهم السلطة ويعتاشون على فتاتها.

* صنف ابن المؤسسات السياسيَّة، وصنفٌ غارقٌ في العزلة، وصنفٌ مهووسٌ بوجع الوطن.

* الثقافة معرفة كل شيء عن الشيء ومعرفة الشيء عن كل شيء. المثقفون في وقتنا الحاضر قليلون جداً؛ والسبب هو تغليب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الإنسان. المثقف هو الذي يعملُ بكل الاتجاهات ويوازن بين التوافقات لحل لغز الحياة والحديث يطولُ يا دكتورنا الغالي.

* المثقف العراقي إنسانٌ أولاً، منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر الذي لا تغير ثقافته من طبعه. الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه، ولا أعتقد أنَّ على المثقف أنْ يطلبَ من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعدُّ المشاركة الثقافيَّة فخراً لصاحبها.

* المثقف العراقي اليوم نتاج بيئة مجتمعيَّة وسياسيَّة متدنية، فاعتقد مثل هذه البيئة ستنتجُ عقلاً ثقافياً يحاكيها، لذلك أمثالكم نتاج بيئة مستقرة كان فيها الحراك الثقافي والسياسي يستطيع الحركة. اليوم المثقف متعالٍ لا ينزل الى الشارع وكأنَّ الثقافة تقول له: تثقف لتعلو على الآخرين.

المثقف ما زال بعيداً عن الناس والناس بعيدة عن المثقف، وحين يتحققُ الاستقرارُ السياسي عند ذاك سيصل صوته والناس ستقترب منه، أما في ظل بيئة شائكة معقدة كالتي نشهدها فإنَّ السعي وراء المال هو الهدف. وللأسف الكثير يحملُ صفة المثقف لكنه لا يزال يفكر بعيونٍ طائفيَّة وما أنْ يمسَّ طائفته (يعوج براطمه). خالص احترامي دكتور.

* المثقف الحقيقي ذو الكرامة والإحساس الوطني منزوٍ (بإمكاني أنْ أعطي أسماءً ولكنْ أخشى أنَّ أصحابها لا يوافقون). أما البقيَّة فهم مثقفو الطموح. أنْ يكون مستشاراً في سوق بيع وشراء المثقف والثقافة والتجارة بها كما التجارة بالدين وهم كثر.

* لا يوجد مثقفون في العراق، لأنَّ الثقافة تعني الوعي والفكر والمحتوى المثمر، من يدعي الثقافة في هذا البلد إما أنْ يكون جزءاً من ماكنة التجهيل أو تراه صامتاً.

* الثقافة العراقيَّة الرصينة هي التي أرسى ركائزها ذلك الجيل الذهبي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ويعود الفضل لمثقفي الحزب الشيوعي الذين أسسوا مدارس في الشعر ظلت منهلاً خصباً للباحثين عنها.

الثقافة العراقيَّة كانت مزدهرة في الستينيات بشكلٍ رائعٍ جداً في مجالات القصة والشعر والفن التشكيلي والنحت بحيث حتى دور الطباعة العربيَّة أطلقت شعاراً حينها “إنَّ القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ)، أين نحن الآن من ذالك العصر الذهبي يا دكتور؟

إشكاليات المثقف العراقي

 عاش المثقف العراقي بعد التغيير، ولا يزال، ثلاث إشكاليات:

الأولى سايكولوجيَّة: يشعر فيها بالتهميش فيعاني بسببها الاغتراب وفقدان المعنى من وجوده في الحياة.

الثانية: فجوة كبيرة بينه وبين المجتمع، خلاصتها أنَّه يرى المجتمع قد وصل الى حالة (بعد ما تصيرله جاره).

الثالثة الأخطر: إشكاليته مع السلطة، وهذه تحتاج أنْ نتوقفَ عندها لنوجزها بالآتي:

* المثقف ناقدٌ بطبيعته للجوانب السلبيَّة، بينما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها. (الحاكم العراقي يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب أنْ يسمعه).

* الصورة التي يحملها المثقف عن السلطة أنَّها (عدوة) له، والصورة التي تحملها السلطة عن المثقف الملتزم بقول الحقيقة أنَّه (عدوٌ) لها، وهذه متلازمة يبدو أنها ستبقى أبديَّة.

* السلطة اعتادت أنْ تقومَ بدور المتحدث، وعودت الناس على دور المُنْصِت، بينما المثقف يعدّ نفسه الأكفأ بالتحدث والأصدق، فتخشاه لأنه أقرب منها نفسياً للناس.

* السلطة تعدّ قناعاتها هي الصحيحة لأنها ناجمة، برأيها، عن (طبخة) ناضجة وعمليَّة، بينما (طبخة) المثقف ناقصة برأيها، ولهذا فإنَّها لا تستمع لرأيه حتى لو كان يمنح (طبخته) طعماً طيباً، إلا إذا كان حلواً في فمها.

* السلطة تميلُ الى التعميم وتعمل على أنْ تشيعَ ثقافة تنتجُ أفراداً بالمواصفات التي تريدها هي، بينما المثقف يميلُ الى التفريد، ولا يضع للثقافة مواصفات أو حدوداً.

* السلطة تشعرُ بالنقص الثقافي أمام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سايكولوجيتان متناقضتان: شعور السياسي بالنقص وشعور المثقف بالاستعلاء.

في الجانب المشرق، هنالك مثقفون تبنوا قضيَّة الجماهير وعملوا على أنْ يُفْهِموا السلطة أنَّ الاحتجاج السياسي سلوكٌ مشروعٌ وحقٌّ ديمقراطيٌّ وثقافة جديدة، ويُفْهِموا الجماهير أنَّ التظاهرات واجبٌ ديمقراطيٌّ أنْ تكون سلميَّة. وحصول ظاهرة بدأت تعيد ألقَ وزهوَ الثقافة العراقيَّة تمثلت بفتح مراكز ومؤسسات ومنظمات ثقافيَّة في العاصمة بغداد ومراكز المحافظات والمدن، وبعض القرى أيضاً، ما يعني حصول إدراكٍ جماهيري (شعبي)، أنَّ وسيلة التغيير لأنْ يعيش العراقيون في وطنٍ يمتلك كل مقومات الحياة بكرامة ورفاهيَّة هي الثقافة، شرط أنْ يفهمها بأنَّها ليست الكتابة والقراءة فقط، بل والفن والموسيقى والانفتاح على ثقافات وفنون الشعوب، وجميل لو يكمل حبات مسبحتها بتعلم لغة أجنبيَّة.


* مؤسس ورئيس الجمعيَّة النفسيَّة العراقيَّة