الحزن الشرقي والعيش في الشعر وهموم الكتابة

ثقافة 2024/02/11
...

 صلاح حسن السيلاوي

ظواهر ومشكلات متعددة، على المثقف أن يواجهها في سبيل وصوله إلى أهدافه، إذ لم تعتد الدولة العراقيَّة منذ تشكلها، على الاهتمام بالثقافة على قدر أهميتها وتأثيرها في المجتمع، لهذا ظل المشهد الثقافي يصارع في سبيل تحقيق ذاته، وطالما كان المبدع العراقي يعمل وحيداً في سبيل إيصال صوته.. هنا توجهنا إلى نخبة من مثقفي البلاد بأسئلة مختلفة عن ظواهر ومشكلات تشغل المبدع العراقي أو تؤثر في منجزه.

أجنحة من وحي الخيال
الشاعر والناقد الدكتور رحمن غركان سألته عن رأيه بتأثير الشعر على حياة العراقيين وتسرّب أدواته الفنيَّة إلى لغتهم، عن علاقة الفرد العراقي بالشعر الذي لا يفارقه منذ ولادته إلى وفاته، الشعر الممتزج بحالات كثيرة، فمن غناء الأمهات في المهود ثم الصبا والمراهقة إلى مظاهر الشعر المتعددة من أهازيج الوفيات والحروب والمناسبات الدينيَّة وأناشيدها، فضلاً عن الأغاني المحتشدة بالشعر كالمقامات والأطوار الريفيَّة التي لا حصر لها فضلاً عن الأغاني المصاحبة للزراعة والرعي.  
يرى غركان أنَّ حياتنا التي تمشي على أجنحة من وحي الخيال هي التي تجدد حياتنا التي تمشي على قدمين فهو في رأيه يؤكد أنَّ العراقيين مسكونون بمهيمنات الشفاهيَّة التي يتسيّدها ويحكمها الشعر، ويوضح غركان ذلك برأيه: حياتنا اليوميَّة، هذه التي تمشي على قدمين، وتلك التي ينسجها الخيال بأساليب كثيرة: منها الكلمات، مادة الشعر الأولى.
ومنها، الألوان مادة التشكيل والرسومات عامة.
ومنها، الحجر مادة المنحوتات والعمارة عامة ومنها، النغم مادة الموسيقى، وما أدراك ما الموسيقى؟، ومنها الجسد مادة فنون هائلة، تحيط بها الحركات ولا تؤديها الكلمات، مثل: الرقص، والبانتومايم، والرياضة بأنواعها الكثيرة جداً، وغيرها كثير.
لا شكَّ أنَّ حياتنا التي تمشي على أجنحة من وحي الخيال، هي التي تطور وتجدد حياتنا التي تمشي على قدمين في طرقات الأيام، بل وتبث الحياة الحقيقة المتطورة المتجددة المتعددة فيها، وبمعزل عن حياة الخيال، لا تستمر حياة في الواقع.  
وأضاف بقوله: ولما كنا نحن العراقيين مسكونين بمهيمنات الحياة الشفاهيَّة فإنَّ فنون القول ستحضر أكثر من غيرها وسيدها: الشعر سيكون مهيمناً، غالباً، موجهاً، حاكماً، في ممكناتنا وموجوداتنا: في الغناء نغني الشعر، وفي البكاء ينهمر الرثاء دمعاً من أبيات وقصائد، وفي الفرح ننشد الشعر، وحين نتغنى بالمعاني الحاكمة أو العابرة فإنَّ الشعر زاد ذلك التغني، وحين نوجز كثافة الأشياء في البال أو في الواقع أو في الخيال، فإنَّ الشعر هو الفن الذي نلجأ إليه، ونلوذ بكلماته وأخيلته التي لا تنتهي، الشعر أنفاس ألسنتنا حين ننزع إلى تكوين الأشياء أو الإمساك بتلابيبها.  

الكتاب العراقي
الناقد الدكتور صباح التميمي سألته عن أهم كتاب قرأه في عام  2023، وأهمية مضامينه؟، وعن رأيه بالكتاب العراقي المطبوع خلال العام الماضي، ومستوى طباعته وانتشاره؟، وماذا يقترح بشأن المؤسسات التي تعمل على إنجازه، وعن رأيه بما يخضع له الكتاب من مشروع تجاري يفضل نوعاً ويترك آخر؟، وعن الحاجة لدعمه في  مجالات محددة كالفلسفة وعلم الاجتماع والنقد الثقافي
وغيرها؟.
فقال: شخصيَّاً أميلُ لاقتناء الكتب المعاصرة السبعينية والثمانينية أو التي صدرت بعد ذلك بقليل.. وربما يُفسَّرُ هذا بالرغبة في الانتماء لذاكرة تلك الأجيال التأسيسيَّة.. ولي طريقة خاصة في الاقتناء والمطالعة تتلخّص بأنَّني أقتني الكتاب و(أرميه) في المكتبة ولا أسأل عنه بعد ذلك.. ليكون – فيما بعد - مفاجأةً تخرج لي من بين أكوام الكتب، وأنا منهمكٌ بالبحث عن كتاب آخر، لنقل إنّها شيءٌ يُشبه عملية (التعتيق)، وبهذه الطريقة الغريبة يتشكَّل لديَّ فضولٌ قرائيٌّ؛ لإعلان لحظة مواجهة مع هذا الكتاب (المعتّق)؛ ربما لأنّني لا أنجح دائماً، في وضع خطةٍ محكمةٍ للقراءة.. لذا أترك المسألة للصدفة وغالباً ما
تنجح.
في العام الذي غَادَرَنا (أعني 2023) أخذتني الصدفة نحو كتاب (رائحة الغوافة)  أو (الجوافة)  بحسب ترجمة أخرى (وهي ثمرة استوائية تتميّز بمذاق لذيذ).. الكتاب – بحسب النسخة التي لدي - صادر عن دار الشؤون ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة، مترجم عن الإسبانية ترجمة جيدة، وهو برأيي خليط من البيوغرافيا والحوار، وفيه تتكشّف صفحات مخفية كثيرة عن حياة ماركيز الخاصة، والتي أثّرت سوسيولوجيّاً في الكتابة الروائيَّة وتقنياتها الخاصة عنده، وهي في إطارها العام كشف لأسرار الشروع بكتابة رواياته المشهورة وتفاصيلها الدقيقة.
الكتاب في الحقيقة رحلة سريّة مع ماركيز يأخذ فيها القارئ نحو مجاهيل ودهاليز الكتابة لديه؛ ليُسلّمه مفاتيح رواياته وأسرارها.. وبرأيي هو كتاب مهم جداً لكلّ من تسوّل له نفسه أن يكون روائيّاً ناجحاً.
وما دامت أسئلة الاستطلاع تُدخلنا في أجواء (نشر الكتب)، فإنّي سأقتبسُ منه ما يجعلنا في الأجواء نفسها، وهو يجيب عن سؤال: ما مشكلات النشر التي واجهتك في رواية (الأوراق الساقطة)؟، يقول ماركيز: «مرت خمسُ سنين قبلَ أن أجدَ لها ناشراً، أرسلتها إلى دار النشر (لوصادا) (في الأرجنتين)، فردّوها إليَّ برسالةٍ للناقد الإسباني (غييرمو دي طوري) يوصيني فيها أن أتعاطى شيئا آخر.. لكنّه اعترف لي بشيءٍ يملؤني الآن رِضى: بحسٍّ شعري قيّم».
في هذا القول أكثر من إشارة ذات أهمية عضويَّة في عالم النشر، أهمها أنَّ على الدار أو المؤسّسة التي تُريد أن تنجح في التأسيس لمشروع نشري فاعل يُسهِم في منحها هُويّة معرفيّة متميّزة في هذا المجال، أن تستعين بفريق متخصّصٍ من النقاد؛ ليعملوا عمل (الفلتر)، فلا تعبر (مسوّدة كتاب مُقدَّمة للطباعة والنشر) إلّا بعد أن تنجح في اجتياز هذه الفَلْتَرَة ...وهو عُرْفٌ رصينٌ تُمارسُه بعضُ دور النشر الناجحة اليوم، وتتساهل فيه - للأسف - كثير من المؤسّسات النشريَّة (الرسميّة وغير الرسميّة)، فقد يُرفض كتابٌ ما؛ لضآلته العلميَّة، مثلاً، وتجده بعد فترة، في أحد معارض الكتب!.
المسألة الجوهريَّة - إذن - تتّصل بتبنِّي مبدأ عدم التساهل في استقبال الأعمال المُرشّحة للنشر، وهذا سيُضيّق من دائرة المجانيَّة التي أبتُلينا بها في زماننا هذا.

الحزن الشرقي
الروائي عباس خلف سألته عن أسباب ارتباط ثقافتنا بالحزن، واحتفاظها بملامحه على مدى قرون من تاريخها؟، حتى أننا نجد الإبداع الذي وصلنا عبر التاريخ مبتلاً بالدمع وإن كانت لغته مترفة ومحمّلة بأسئلة الذات والعالم، كما سألته عن إمكانية تحول الحزن من باعث لأسئلة الحياة والموت ولا عقلانيَّة الوجود، إلى باعث لتشابه النفوس وانكسارها، عن الخطورة الكبيرة التي تنتج بعد غياب العقل في لحظات التصاعد العاطفي للحزن، تلك الخطورة المتمثلة بغرقنا في أمواج شكلياته المتوالدة من دون الغوص في ماهيته الإنسانيَّة، من دون الانتباه إلى أنّه أحد خصوصياتنا التي لا بدَّ لنا التفكر كثيراً بمسبباته وأنساق تواجده؟.  
يرى عباس في إجابته عن تساؤلاتي أنَّ جذور الحزن العراقي لا تختلف عن مثيلاتها العربيّة التي تكيّفت مع الصحراء والبداوة وهما عاملان فاعلان في تكوين شخصيته على حدِّ قوله، مشيراً إلى أنَّ الدراسات الحديثة أثبتت أن البداوة والصحراء تولد التغريب بتجلياته النفسيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، والدليل أن ما أنتج إبداعيّاً من شعر ومقامة ونثر يتسم أغلبه بنبرة الحزن.
وأضاف خلف موضحاً: كما لعب الفقر والمرض والهجرة في العصور اللاحقة دوراً في تأجيج مشاعر الحزن وأمام هذه العوامل المشتركة تزداد الحيرة والغموض في العيش وتبدأ الإرهاصات تشكل ملامح تلك المعاناة التي لا يمكن التحرر من قيودها من دون التعبير عنها، فنرى أنَّ النخب الثقافيّة ونتيجة الممارسات الفكريّة والمعرفيّة استطاعت أن تترجم هذه الأحاسيس بشكل واضح وجلي وبلغة إنسانيّة متدفقة بالجمال والإبداع كما هو الحال مع قصائد السيّاب وبلند الحيدري ونازك الملائكة والبياتي، وهكذا تتبادل الصور ورسائلها من قلب المعاناة لتغدو خيالاً يذوب في نكهة الحلم، ولكن السؤال الأهم، هل يمكن أن يزول الحزن لمجرد الكتابة؟، لا أعتقد ذلك; إنَّ (الحزن الشرقي) إن صحت التسمية، شبَّ على قراءة انكسارات محيطه الاجتماعي والتربوي والأخلاقي فلا يستطيع أن ينتزع من هاجسه ذلك الخوف ما دام الوجع الكلي يتربّص به وجع الفقر والحرمان والهجرة والمرض والخوف والإحباط، وهنا يمكن للدولة بوصفها راعية لمصالح أبنائها من النخب المثقفة أن تخفف من وزر معاناتهم بأشياء في متناول اليد وسهلة التطبيق إذا توفرت الجديّة والنية الحسنة مثل التأمين الصحي وعيش رغيد وسكن لائق.

طفولة المثقف وبيته الأول
توجهت للشاعر الدكتور وسام حسين بأسئلة عن الطفولة وبيتها الأول في ذاكرة الإنسان، عن ذلك السطوع الذي تتشعّب منه طرقٌ في آفاق السنوات الأولى، طرقٌ للنقاء والدهشة والأسئلة، يختلط فيها الأب والأمّ والإله، اللعب والجد، الصدق والكذب، البكاء والضحك، يتساوى فيها الذهب والتراب، هناك عند أول عتبات الحياة، تلك العتبات التي تظل تسطع في ذاكرة المبدع.
أسئلة عن أثر تلك الطفولة على المنجز الإبداعي؟، عن صورة الطفولة العراقيَّة التي تنفّست رائحة البارود والعنف الطائفي وتلوّنت أيامُها بألوان الملابس العسكريّة؟، أيمكن أن نعدّ تلك الطفولة حافزاً لصناعة حزن مضاف لحزن العراقيين في كتاباتهم؟، أم أن هنالك ألواناً أخرى
لطفولتهم؟.
ابتدأ حسين إجابته بتساؤلات قال فيها: كيف للشاعر أن يتبنّى خطاباً شعريّاً يتناسى فيه بالمرّة، ما كان قد انطبع في ذاكرته منذ أيام الطفولة وصولاً إلى سِنيّ مراهقته، من أثر الديكتاتوريّة المقيتة، التي عملت طيلة عقود من الزمن، على ما يشبه «غسيل الأدمغة» عبر برامجها المؤدلجة التي من شأنها، زرع ثقافة العنف والكراهية، وإنماء روح التفاخر بحمل السلاح، وصناعة عدوٍّ مختلق في الذاكرة الجمعيَّة للأمة بعامة والطفل
بخاصة..؟.
ثمَّ بدأ حسين بالإجابة عن تساؤلاته ذاتها بقوله: التخلّي عن ذلك المتخيل ليس بالهيّن، فالشاعر ليس إلّا إنساناً، تعمل ذاكرته على تغذية نصوصه بما كان عليه من سلوك يراه الآن مرتعاً للبراءة، وإذا به يصطدم بتلك الذكريات المريرة، حين يتذكر أنّه منذ نعومة أظفاره يُردّد (أنا جندي عربي بندقيتي بيدي) أو (أنا جندي صغير كالمغاوير أسير) وغيرها من الأناشيد التي لم ترسم في سماء عقله سوى هذا المستقبل، مستقبل أن يكون جندياً يحمل سلاحاً يُقاتل به الأعداء..!، أو لا يجد لعبة يلهو بها غير الأسلحة؛ ليُفرّغ شحناته التي تولّدت لديه من تلك الأناشيد عبر هذه الأسلحة «البلاستك» وحتى لو مرّر شريط ذاكرته إلى مراحل عمريّة أخرى، لا يجد غير هذا المضمون السوداوي في حياته، فلا يجد غير مشهد رفع العلم والطلائع الذين يتمنى حينها أن يكون واحدا منهم، ويسعى لأن ينخرط في صفوفهم، أو العكس، وفي كلا الحالتين، يمثل ذلك المشهد قتلاً لبراءته واستنزافاً لها عبر تلك المناشط المؤدلجة لصالح (الحزب والثورة) وغير مشهد مدير المدرسة يرمي من بندقيته أثناء تأدية التلاميذ مراسيم رفع العلم، ثم تنقضي سائر مراحل دراسته بين قصيدة لأبي تمام (السيف أصدق إِنباءً من الكتب...!) التي لا ينطبع في ذاكرته منها، غير نتيجة حتميّة تذكره بما كان يحلم به في صغره من أنشودة (أنا جندي عربي).. تدعوه لحمل السلاح، فهو الأصدق من كل شيء يحلم به، وما عداه سراب.. وانتهاء بما تقرر عليه حفظه من أبيات لصفي الدين والتي منها: (سودٌ وقائعنا حمرٌ مواضينا) وبهذه الفذلكات البديعيّة، نجحت آيديولوجيا النظام الشمولي بصنع أجيال لا تفخر إلا بالعنف لأبعد الحدود والتباهي بالرد صاعين
للمعتدي.
ثمَّ أضاف قائلا: وهكذا تسير عجلة الذاكرة عبر هذه المشاهد الخادشة لطفولته المسروقة من حياته، وهنا يكون السؤال، كيف للشاعر أن يبني في خطابه الشعري الحالي ما يمكن له اجتياز كل تلك المشاهد من حياته..؟، برأيي أنَّ المهمة عسيرة، وتتطلب مدة زمنيّة مع خطة مدروسة لتفعيل خطاب شعري مضاد لما انغرس في مخيال الشاعر من أفكار الحزب والثورة.. وإلا بقينا ننتظر جهداً فرديّاً هنا وهناك، قد لا يؤثر في عموم المشهد الثقافي إلا بقدرٍ قليل، وهذا ما نجده عند (جليل خزعل) الذي سار على خطى (جعفر علي جاسم) ومن قبله (باقر سماكة) وهي جهود طيبة، ولكنها تبقى جهوداً فرديّة، لم تأخذ حيزاً أكبر، فمشهد الأدلجة هو الطاغي في مخيال الشاعر الآن وسحب الطفولة إلى مناطق منزوعة السلاح، تشبه إلى حد كبير، ذلك الذي يبحث عن فسحة ظل تحت ظهيرة ساخنة، فما إن يفرح بوجود بقعة ظل صغيرة، فسرعان ما تلسعه أشعة الشمس بحرارتها
الطاغية...!.