النَّصُّ الصناعيُّ في مفهوم ما بعد الحداثة
وارد بدر السالم
لابد أن نتوافق ولو بالحد الممكن مع السرديات النقدية ذات الطاقة الإيجابية التي اعتدناها سابقاً في قرائتها للنصوص الأدبيّة. ولا يمكن التنكر للأدوار التي لعبها النقد بطاقته الخلاقة من أن يكون مرشداً للنص وفاعلا ومقوماً له، منذ عبدالحميد الكاتب في بلاغة رسائله (قيل بأنه أول من وضع الأصول الفنيّة في الأدب العربي) والجاحظ في مروياته والتماعاته النقدية المجتمعية والأدبية، وصولا إلى آيزر وفوكو وبودريار وليوتار وسواهم من منظري قراءة النص على وفق منهجيات ونظريات كثيرة، خاصة من الذين أسسوا لمفهوم ما بعد الحداثة.
«وقعَ الحافر على الحافر» تعبير جميل في مفهوم «التناص» الذي كثّفته جوليا كريستيفا، في إشارتها إلى مرجعيات النصوص الأدبيّة وأنظمتها اللغويّة والفنيّة، ومطابقتها لأنواع نصّيّة كثيرة لهذا المصطلح ذي المفردة المختزلة الواحدة (قيل أن ميخائيل باختين هو أول من وضع مصطلح التناص) وهو أمر نادى به رولان بارت كثيراً، عندما عدّ النص الأدبي عبارة عن مجموعة نصوص سابقة عليه، وكأنه تمثّل المقولة الشائعة بأن (الأسد عبارة عن مجموعة خَراف مهضومة) وهذه الخراف المهضومة بين الأسد / النص تظهر نقدياً في التحليل والكشف والتفكيك، لهذا فبعض النظريات الإجرائية في النقد تحاول، بالإحالة إلى نصوص أسبق، أن تختبر النص الجديد على وفق مؤثراته اللاواعية، لتفتح مغاليقه بطريقة قسرية تقريباً، إنما هي قراءات متعددة لكيفية «صناعة» السرديات والشعريات بين الأجناس الأدبية.
الصناعة؛ مفهوماً؛ إنشاء أو خلق نص من الواقع ممتزجاً بالخيال قليلاً أو كثيراً، تتحكم فيه العديد من العوامل البيئية والشّخصية والظروف المحيطة به. وإذا كانت «صناعة» الكتابة قد انتظمت بين يدي عبدالحميد الكاتب كما يُشار إلى هذا أكاديمياً، فأن الزمن النقدي الطويل بينه وبين جوليا كريستيفا أو باختين أو آيزر أو ليوتار، حمل مفاهيم متنوعة في النظر إلى «الصناعة» النصّية، كما لو أن الإلهام الذاتي؛ حسب نظريات ما بعد الحداثة النقدية؛ تحوّل إلى صناعة. بمعنى أن النقد بشكله العام قد أحال الإلهام إلى موجة صناعية في قراءة النصوص، وهذا يتعارض مع مبدأَي الموهبة والإلهام عند الناص الذي يعمل على خطين متوازيين بين المخيلة والواقع ومزجهما.
لا يبدو هذا تفسيراً قسرياً لما آلت اليه النقديات الغربية في مركزيتها، غير أن نظريات النقاد الكثيرة، وضعت قوانين لن نراها مهمة جداً في كيفية إعادة النصّ إلى وحدات صغيرة تتفاعل في ما بينها. أي أن تحويل الطاقة النقدية الإيجابية إلى طاقة هلامية مكتظة بالنظريات والإجراءات والمصطلحات والمفاهيم، قطعاً لن تكون في صالح النص. فتُشَتت دماءه بين القبائل النقدية، وتتحول إلى الضد من المراهنة على خلق عوامل مساعِدة، تنهض بالنصوص الأدبيّة، وهذا واقع حاصل في التكييفات النقدية لصالح نظرياتها في فحص النصوص أو إجراءات التلقي عند القارئ. إلا أنّ أية نظرية لا تصمد كثيراً أمام موجات الكتابات المتواترة في العالم السردي الجديد، لذلك نجد تغييرات دائمة في وجهات النظر، ومصطلحات شاقة في احتواء النصّ الأدبيّ، وصرعات متتالية في تفكيك النصّ، وإحالته إلى أجزاء وعناصر صغيرة، وإدخال القارئ الإلكتروني في رؤيته للنص وجعله مساهماً في صناعته، كونه الطرف الآخر لفتح بوّابة النص.
منذ الزمن العباسي حتى هذا القرن، ونظريات الكتابة لا تنتهي. حتى في هذا العصر العلمي المليء بالغرائب والخيال والأساطير المستحدثة اعلامياً واجتماعياً، لا ينفك السرد عن تداولها، كأنما الواقع استنفد رصيده في الكتابة. وبات مستهلكاً لفيض السرديات الروائية والقصصية والمسرحية والنقدية. والتهيؤ إلى دخول عالم موازٍ لعالمنا حسب ما ينتجه العلم من معطيات جديدة. حتى أتيح للخيال السردي أن يأخذ مدياته في التواصل الفني الذي ينبغي أن يكون أكثر إبهاراً من الواقع، لا لمجرد تكثيفه وإعادة صياغته على وفق الرؤية الجمالية للواقع المتحول إلى الخيال. بل أن لغة العصر وشكل الكتابة فيه، تحول هو أيضاً، بناء على مسلّمات التطور الجمالي، بما في ذلك تحول الحياة المعاصرة إلى أوضاع مريبة جداً، انشغلت بين الحروب، والتهديد بالنووي، وتغيرات المناخ العالمي، وانقلابات الطبيعة في عواصفها وثوراتها البركانية وجزرها ومدّها وتصحّرها، وظهور حركات تنتمي إلى التطرف الديني والسياسي، واستباحة الحياة بأكثر من طريقة، بما في ذلك عبثية الحياة في بنيتها الداخلية والخارجية، ووجود عوامل طاردة إلى السلام المجتمعي في مكل مكان. وهذا يُقلق الكتابة ويخلخل بنيتها العامة، ما يستدعي ظهور فلسفات نقدية تالية تواكب هذه المصائر المتأرجحة. وهذا من البديهيات التي رافق نمو وتطور السرديات منذ زمن طويل.
لو نظرنا إلى موضوعة بدايات ما أطلق عليها بالحداثة فأنها ارتبطت بغوتنبرغ مخترع الطابعة قبل أكثر من خمسة قرون تقريباً، وأنها لم ترتبط بنظرية أدبية، انما في حالة اختراع علمية مهّدت الطريق إلى الكتابة بشكلها العام. وقد يكون العصر العلمي وقتها آخذاً بالتطور والتنوع، وبلا شك أنه فتح منافذ لإطلالات أكثر وضوحاً في النظر إلى الكون والحياة ومتطلباتها. غير أن التطور الهائل بعد تلك القرون البعيدة،
وبشيوع أساطير العالم السفلي، ومعطيات الصحون الطائرة، والإنسان المجهول الذي يظهر ويختفي بملامح قبيحة على الأرجح، للإشارة الغامضة إلى وجود كائنات بشرية في كوكبٍ ما. كل هذا وطّد مرتبة الخيال في الكتابات، لم تكن سائدة في العصر العباسي الجاحظي ولا في غيرها من العصور السابقة واللاحقة. حتى في عودتنا إلى العصر الجاهلي. الذي كان يقبض على جمرة الكتابة من دون خيال حاسم، إلا عند الشعراء الذين يميلون إلى تثوير اللغة والمبالغة الشعرية في توطيد أركانها الفنية في توسّع الخيال بتوليدات جمالية، لزيادة المعاني والدلالات الفنية في القصيدة الجاهلية على وجه التحديد. حتى أن العصور العباسية (الأول والثاني) ومن ثم العصر الأموي، لا تخلو كتاباتهم الشعرية والأدبية من تأثرات بيّنة في ما تداوله السلف الشعري السابق. وسنجد الكثير من الشواهد الأدبية كما لو هي (صناعة) حاذقة ومتمرسة، أي هو (نظم) أكثر من كونه خيالاً شعرياً فائقاً، كما عند شعراء العصر الجاهلي، لذلك اتضحت بعض معالم النقد الأدبي عند بعض الدراسين القدماء (ابن قتيبة مثلاً) ولأن محدودية المناورة النقدية كانت ضيقة، أي كانت مستلزمات الكتابة الورقية والطباعية وسواها، غير متوفرة إلى حد كبير، كانت المجالس الأدبية، والحوارات المباشرة هي الفضاءات الممنوحة لنقاد تلك العصور، فالعباسيون في مرحلتيهم بعد الإسلام، ومع الحرية المتاحة للظهور الأدبي والاجتماعي والنقدي، كانوا سباقين إلى تراجم الشعراء والبحث في تجاربهم الشعرية وممكنات تفوقهم على أسلافهم الجاهليين، وبقيت مؤلفاتهم الشارحة تحت أنظار الدراسات الأكاديمية حتى في هذا العصر، إذ بقي منهم عبد القاهر الجرجاني وابن رشيق القيرواني، ومن ثم ابن سلام الجمحي وابن قتيبة وسواهم ممن ميزوا النظم والخيال المتاح شعرياً بطريقة علمية ناقدة ذات منهج علمي على
الأرجح.
لا نريد استخلاص بأن البيئة هي التي تفرز ملامح روادها الأدبيين، وأن الأدباء هم خلاصة عصورهم، فقد يكون هذا صحيحاً إلى حد كبير، لكن العودة إلى الوراء ستعطي انطباعات مؤكدة عن هذا التصور، فكلما انفتحت الحياة صارت «الصناعة» الأدبية مفهوماً دارجاً، ينعدم فيها الخيال السردي والشعري إلى حد غير طبيعي.. فهل الانفتاح الاجتماعي والسياسي والمعرفي والجمالي يساهم في خلق بؤر إبداعية متجاوزة لعصرها لتستشف ما هو أبعد من ذلك، أم أنها تخلق فتنة في النصوص، باعتبار أن الفضاء المفتوح هو جزء من وضوح المعاني، وأن الحافر سيقع على الحافر، أم أن العصر العلمي المتسارع من بوابته الإلكترونية الجديدة سيكتسب شرعية التدخل في النصوص الإبداعية، للمزيد من الخيال الفائق الذي تشير اليه نظريات نقدية كثيرة ؟