رسّامون ينسخون تجارب بعضهم وآخرون ينهلون من مدارس عالميَّة

ثقافة 2024/02/14
...

صفاء ذياب



 منذ بدايات التشكيل العراقي الحديث في عشرينيات القرن العشرين، وصولاً إلى عقد الخمسينيات منه، الذي مثّل انتقالة كبيرة في التشكيل على يد الرائدين فائق حسن وجواد سليم وكوكبة كبيرة من الرسّامين العراقيين، فضلاً عن الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وحتَّى يومنا هذا، يلاحظ أنَّ هناك ثيمات محدّدة وفيكرات تتكرّر لدى مجموعة من الرسامين خلال مدّة زمنية معيّنة، ومن ثمَّ يتحوّلون إلى تفصيلات أخرى مع أيِّ تحول سياسي أو ثقافي في البلد.
وفي أحاديث عديدة مع نقّاد ومتابعين للتشكيل العراقي، يؤكّدون أنَّ كلَّ عقد يمر على هذا الفن، يشكّل موجةً من الموضوعات والخطوط يتشابه بها عدد كبير من الفنانين، فظهرت موجات من الفنانين الانطباعيين، ثمَّ التجريد، وصولاً إلى الأعمال التي عبّرت عمَّا يمرُّ به العراق من أحداث قاسية، فتوحّشت اللوحات الفنية، من خلال تضخيم الأجساد مع قطع أجزاء منها، أو وضع أجزاء مكان أجزاء أخرى، فضلاً عن اعتماد عدد من الفنانين على الحيوانات المتوحشة، على سبيل المثال.

فهل كانت هذه التفاصيل في الأعمال التشكيلية تمثّل موضة لدى الفنانين، أو كان الفنانون يستنسخون تجارب بعضهم في كلِّ مدّة من الزمن؟.

 ثوابت وأوثان

يرى الفنان والناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي أنَّه منذ بدايات تشكل الأجيال الأولى في الرسم العراقي، تمَّ اكتشاف يحيى بن محمود الواسطي أو ما عرف بمدرسة بغداد للرسم، أو التجربة الفنية للواسطي، وكان ذلك تلبيةً لحاجة أثارها خطاب النهضة العربية الذي دعا إلى إيجاد مرتكزات تحديث للواقع العربي، من خلال الوصول إلى ما أسميته (الوسط الذهبي)، وهو الحدّ الذي تجتمع فيه (الروح المحلّية) مع المؤثّرات الحضارية الوافدة، فكانت أهم المقترحات التي طرحت هي تجربة جواد سليم التي لم تفهم كمقترح يجب أن يعيش مع المقترحات الأخرى، ولكنّه فهم بوصفه (نسقاً) له صفة الإلزام وربَّما درجة من القداسة، ولكن سرعان ما عصفت رياح الستينيات بعد بضع سنوات بـ(ثوابت) جماعة بغداد، وسرعان ما تولّدت (أوثان) جديدة تبدّدت هي الأخرى على مذبح الإبداع الذي لا يمكن قولبته.

مضيفاً: إنَّ التحوّلات خلال مدد زمنية معيّنة، أو خلال التحوّلات السياسية أو الثقافية، كانت تؤثّر في بعض جوانب الفن التشكيلي، وهي الجوانب التعبوية التي يمكن للسلطة أن توظّفها، ولكنَّ قوانين الفن التشكيلي كانت عصيّة على الانقياد إلَّا لمنطقها الخاص.

إنَّ ما سُمِّي بالـ(موضة لدى الفنانين) حينما “كانوا يستنسخون تجارب بعضهم في كلّ مدّة من الزمن”، سرعان ما تنتهي لكون الإبداع والجدة بقيا، ومن بدايات الفن التشكيلي الحديث في العرق بقي القانون الأول والأهم ولاسيّما خلال الستينيات وما بعدها، وإنَّ استنساخ أيّ ملمح سابق كان يوحي ربَّما بأهمية التجربة الفنية التي يجب أن تتمتّع بقدر كبير من الجدّة والمفارقة والتميّز الأسلوبي..

 توقّف الخيال

ويتفق الشاعر والناقد التشكيلي خضير الزيدي على أنَّ قسماً كبيراً من الرسّامين العراقيين، وظّفوا ثيمات محدّدة وفيكرات باتت متكرّرة خلال فترة زمنية معينة، وبعدها أخذوا بطريقة التحوّل في الأسلوب بهذه التفاصيل في الأعمال التشكيلية، حتّى بدت للمتلقي وكأنَّها موضة لدى نفر من أولئك الفنانين، ولكنَّهم في حقيقة الأمر سقطوا في مستنقع استنساخ تجارب غيرهم من الفنانين الغربيين أو العراقيين.

ويعتقد الزيدي بأنَّ ثمة قصوراً في الوعي وعدم المسؤولية، فضلاً عن أنَّ الجهد الفني مرتبك عندهم في إبداء طريقة الرسم. وما يؤسف له حقَّاً أنَّها تحوّلت من حالة سيّئة إلى ظاهرة، بعد أن عرفنا أنَّ الفن العراقي يشهد تحوّلات أسلوبية وتنوّعاً في مضامين العمل، وحتَّى طريقة التكوين الفنّي، والمشكلة الأكبر تبدو أخلاقية بحق، إذ يعتمد الغالب منهم على الصمت أو المجاملة وعدم الانتباه إلى قيمة المسؤولية الأخلاقية لهذا الفعل، “شخصيّاً تتوفر لديّ مجموعة كبيرة من تلك الأعمال المتشابهة، وهي مخيفة لو تمَّ الاطلاع عليها، هذا لأنَّ الفنّان العراقي بدا اليوم كسولاً وغير مجتهد ومتوقّف الخيال، وطبعاً حتَّى ننصف الآخرين نقول إنَّ الظاهرة لم تكن عراقية فقط، بل اتسعت رقعتها عربيّاً، ولا بدَّ من التذكير هنا بأنَّ علينا أن نفرّق بين طريقة الاستنساخ والتأثير، وهما مختلفان، وهذا ما دعا الكثير من نقّاد الفن إلى الأخذ بالتزام الصمت أو تبرير فعل الاستنساخ، ممَّا جعل ظاهرة الفن السيّئ تتكرّر وتنتشر بسرعة أمام أنظار المتلقي.

 فضاء واسع

ويشير الفنان التشكيلي عبد العزيز الدهر إلى أنَّ العالم شهد خلال القرن الماضي تبدّلات هائلة بعد حربين عالميتين مدمّرتين غيّرتا الكثير من الأفكار والمسارات الإنسانية، ووجد الفنان التشكيلي نفسه أمام تساؤلات كبيرة في خضمِّ البشاعات والانتهاكات الإنسانية والفكرية العميقة، وصار الفنان يفكّر جدّياً في معنى الحياة والجمال والنظام في ظل القبح والفوضى التي ولّدتها الحروب، فظهرت تيّارات وحركات ومدارس فنّية ترفض كلَّ ما هو تقليدي ومتعارف عليه، وتمرّدت على الأسس والقوانين المعروفة كلّها، وقد ساندتها في تحوّلاتها ثورة علمية هائلة في الفيزياء والكم وعلوم النفس وغيرها... في خضمِّ هذه الثورات الفكرية والفنّية كانت البعثات العراقية الأولى لروّاد الفن إلى أوروبا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وقد وجد الفنّان العراقي نفسه وسط صراعات متلاطمة وحركات فنّية ومدارس تظهر وتختفي، ولكنَّها تترك أثراً كبيراً في تغيير مسار التشكيل العالمي. ووسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة كان على الفنان العراقي أن يحدّد موقعه ويثبت مكانته الخاصة، فكانت هنالك محاولات جادّة من أجل إثبات الهوية، وقد دعا جواد سليم للرجوع إلى التراث وإنشاء مدرسة بغدادية خاصّة مستلهماً من رسومات الواسطي ومن الأقواس والأهلّة ثيمات ودلالات تميّز فنّه عن باقي الفنون. في حين نحا البعض الآخر إلى التراث الإسلامي والحرف العربي على الخصوص من أجل فن عراقي أو عربي متميّز مثل شاكر حسن آل سعيد وجميل حمودي الذي أدخل الحرف إلى لوحته. هذه المحاولات وغيرها كانت تهدف إلى الهوية العامة للبلد، ولكنَّ الأجيال اللاحقة صارت تحشر الدلالات والثيمات الخاصة بها من أجل التفرّد الشخصي أو ما يسمى بالأسلوب الشخصي للفنان، مثل وضع رموز معينة كالإشارات الرياضية ÷×+.. أو الدوائر وبعض الأشكال الأخرى لتميّز لوحاتهم وأسلوبهم.. وربَّما أصبح البعض أسيراً لهذه الرموز وصارت هذه الرموز بمثابة القيد الذي يكبّل الفنان ويجعله يكرّر نفسه..

يبدو أنَّ ظاهرة المدارس والتكتّلات الفنية قد انحسرت في السنوات الأخيرة وصار كلُّ فنّان أصيل مدرسة بحدِّ ذاته، فالفن فضاء واسع لا تحدّه الحدود والقيود...

 فخ التقليد والاجترار...

ويبين النحّات خالد المبارك أنّه منذ بداية نشوء الحركة التشكيلية العراقية على أيدي موهوبين من رسّامي الواقعية، وضمن أسماء محدودة منها عبد القادر الرسام وآخرون، أخذوا على عاتقهم توثيق الحياة والمشاهد الطبيعية والواقعية العراقية حصراً وبروح كلاسيكية، لكنَّ تغّير الحال بعد ظهور جيل من الفنانين سنحت لهم الفرصة للاطلاع على المدارس الفنية الأوربية ضمن إيفادهم للدراسة في أوروبا وتأثرهم بتلك التجارب والمدارس الفنية، فعكسوا ما شاهدوه وتأثّروا به في أعمالهم، وعند عودتهم إلى العراق، ولاسيّما بغداد، أحدثوا تحوّلا في طرح أساليبهم الفنية، كاسرين طوق العزلة في فن الرسم والنحت، ممَّا حدا لظهور جماعات فنّية تحاكي التجارب التي اطلعوا عليها، بل تأثّروا بها، وهي انعكاس لها، منها الانطباعية والتعبيرية وغيرها وقليل من الأكاديمية، فكان حدثاً فنيّاً ترك أثره في واقع الفن العراقي وطلبة الفن ومريديه، وطبقة من المتذوقين من المترفين والطبقة الارستقراطية... وبعد سنوات ظهر جيل أعاد الكرّة مرّةً ثانية، ولكن بداعي إيجاد مدرسة للفن لها هوية محلّية وارتباط بإرث شرقي طالما استقى منه الكثير من فنّاني أوروبا مثل بيكاسو وماتيس وآخرين، وظهور جماعة بغداد للفن الحديث متعكّزة على رسومات الواسطي وفن التصوير الإسلامي، وبعدها جاء جيل الستينيات الذي أوجد أسس وقواعد ساهمت في ظهور مافيات للفن التشكيلي تركت آثارها لعقود بغضِّ النظر عن بعض الفنانين القلائل، منهم الفنان المبدع والمتفرد صالح القره غولي واتحاد كريم وآخرون... أمَّا جيل الثمانينيات فكان ضحيّة الحروب وما أملته الظروف من قسوة وتجنيد السلطة للفنان وتوظيف جهوده للمجهود الحربي... وبعدها توالت الحروب والحصارات والمآسي، وإزاء هذا كلّه ظهرت تجارب خجولة للبعض من الفنانين لم تكن ذاتها متحرّرة من قيود من سبقوهم من الفنانين الذين كانوا يعطون صكوك الغفران والشهرة لمن يقلّدونهم ويتبعونهم باجترار، فظهر جيل من المقلّدين الجدد، وكان هناك الكثير من النقّاد ممّن يشجّعون هذه الظاهرة لمآرب وغايات انتهازية ومنفعية. واستمر هذا الحال لمدّة طويلة تركت آثارها السلبية في حركة التشكيل العراقي وحتّى وقتنا الحاضر... والشيء اليسير من الفنانين المخلصين لتجاربهم أصبحوا منعزلين، ولكونهم صادقين لا تنسجم طموحاتهم مع الواقع الذي صنع عدداً كبيراً من فنانين لا يملكون أي موهبة.

 تأثر أكاديمي

ويختتم الخطاط والمصمم الدكتور فلاح حسن الخطاط حديثه، متكلماً عن التخطيطات والموتيفات التي كانت تنشر في الصحف العراقية، موضحاً أنَّ الرسوم والموتيفات ظهرت في الصحافة العراقية بشكل مبكّر، متأثّرة بما تنشره الصحافة المصرية واللبنانية، وقد مرّت الصحافة العراقية بحقب سياسية عديدة؛ منها الملكية، وامتازت أفكار الرسوم حينها بحسب توجّه الصحيفة أو المجلّة، إذ كانت صحافة الأحزاب منتشرة آنذاك، فانتشرت الرسوم المناهضة للاستعمار والدفاع عن حقوق المواطنين والتوق للحرّية. أمَّا في العهد الجمهوري الذي تمثّل بالانقلابات العسكرية، فقد امتازت الرسوم الصحفية بحركة الشخوص والأشكال، وهو انعكاس لظاهرة ثقافة العنف السائدة مع تكرار الجسد الإنساني المقطّع الأوصال. واستعمال ثيمة الرأس المقطوع وتكرارها، نتيجة مرجعيات عدّة مثل رؤوس الملوك البرونزية الرافدينية، والرسوم السومرية التي شكّلت ضاغطاً جماليا سحرياً، وكذلك صورة الرأس المقدس، وهو مقطوع ومحمول على الرماح تارةً أو في إناء تارةً أُخرى، وما يحمله من قدسية مأساوية ارتبطت بمفهوم الشهادة الحسيني.

وبالرغم من اختلاف انتماءات الفنانين السياسية، إلَّا أنَّ تلك الأفكار كانت متشابهة في ما بينها.. كذلك جعلتهم دراستهم الأكاديمية في معاهد وكلّيات الفنون يتأثّرون ببعضهم. وحينما بدأت الحروب العبثية ظهر جيل آخر من الرسّامين جسّدوا (الانتصارات) الوهميّة.. في حين ذهب البعض الآخر باتجاه المدرسة التعبيرية في معظم الرسوم الصحفية، وذلك من أجل مراوغة الرقيب لتمرير أقصى ما يمكن من تعبيرات قد تتقاطع مع آيديولوجيا السلطة آنذاك.

ويضيف الخطاط: يبقى ما قدّمه الفنان العراقي من رسوم تمثّل مدرسة إبداعية على اختلاف مشاربها، تمثّلت بقوّة الخط والإنشاء البصري للتخطيط، وعكست مسؤولية الفنان في معالجة قضايا شعبه، أو انعكاس لما يحتويه النص الصحفي.