آنا باركز والواقعيَّة المغلوبة
د. نادية هناوي
يثير مفهوم الواقعية بين حين وآخر اهتمام النقاد والمفكرين، فيدفعهم نحو وضع تفسيرات وتصورات لها صلة مباشرة بالإنسان وما يحيط به من طبيعة ومجتمع. وإذا كان من النادر أن نجد لدى منظري الواقعية في القرنين التاسع عشر والعشرين اهتماما بما هو غير بشري، فإن الأمر تغير في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، إذ صار معتادا أن نجد الباحثين المعنيين بالتنظير للواقعية يتعدون النطاق البشري ويذهبون باتجاه البيئة وما في الطبيعة من حيوان ونبات، معتمدين أولا على منهجية التعدد في التخصصات التي معها يتلاقى النقد الأدبي مع العلوم الإنسانية الأخرى كعلم البيئة والانثروبولوجيا والتاريخ وغيرها، ومستجيبين ثانيا لنزعة ما بعد الإنسان كردة فعل على ما سببه عصر الأنثروبوسين من كوارث ألحقت أضرارا بالبيئة والنظام الطبيعي. وهو ما يتطلب نظرا واقعيا يخالف الرؤى الراسخة والمعتادة.
ومن النقاد الذين غامروا بدخول هذا المعترك واستطاعوا أن يطرحوا رؤية خاصة في هذا المجال الباحثة البولندية آنا باركز بكتابها (سرد الحيوان والثقافة: الواقعية المغلوبة)2017. ويتضمن ثمانية فصول موزعة بين ثلاثة أجزاء، تتناول موضوعة الحيوان من زوايا عدة تتعلق بنظرية السرد ونزعة ما بعد الإنسان كأصوات الحيوان في الأدب ووظائف الحيوان بوصفه ضحية أو لاعب سيرك أو نصبا تذكاريا وبحسب ما تضمنته أعمال إبداعية منتخبة لمفكرين وروائيين وباحثين مثل جاك دريدا وهيلين سيكسوس ودكتور لورانس وفرديناند أوسيندوفسكي وغيرهم.
وما يهمنا هنا هو الفصل الأول المعنون ( إعادة تعريف الواقعية وإمكانيات التفسير الجديدة)، وجاء منضويا تحت الجزء الأول ( الواقعية، المرجعية، المغلوبية)، وفيه حاولت الباحثة باركز استقراء الظواهر الأدبية وغير الأدبية المتعلقة بسرد الحيوان، محاولة الإجابة عن سؤالين: الأول ماهية الواقعية المغلوبة، والآخر نماذج سرد الحيوان. واستعملت ثلاثة مفاهيم هي: “النص” للظواهر الأدبية، ومفهوم “الثقافة” لغير الأدبية، ومفهوم “النص الثقافي” للظواهر التي تجمع الأدب بما هو خارج الأدب.
وترى باركز أن للحيوان في المجتمع البشري وجودا ثانويا، وفي كثير من الحالات يكون هذا الوجود خاليا من أية دلالة أدبية كأن يكون الحيوان داخل حديقة أو في سيرك. ولهذا الأمر أسبابه، وقد حددتها الباحثة ومن خلالها أكدت أن الواقعية ومنذ أن عُدت مذهبا أدبيا في القرن التاسع عشر هي مفهوم غامض.
ولتوظيف الحيوان في السرد، وضعان سائدان ومتقاطعان: الأول مؤنسن ضمن عالم البشر والآخر غير مؤنسن ضمن عالم الطبيعة. ويتم تمثيل هذين الوضعين باستراتيجيات واقعية، فيها الحيوان إما أن يكون أليفا أو مفترسا أو مسجونا (كما هو الحال في حديقة الحيوان أو السيرك) أو يكون طليقا. وكون الحيوان يشعر ويتكلم فذلك لأن له تجربة في عالم واقعي يشترك فيه مع الإنسان بنموذج جديد ما بعد إنساني أو ما بعد مركزي هو بمثابة حلقة مفقودة في سرد الانثروبوسين. فتكون للحيوان أدوار واقعية تضاهي واقعية أدوار البشر في السرد، بوصفه كائنا ذا سلوك اجتماعي ومشاعر عاطفية، كثيرا ما يجهلها الإنسان وقد يسيء إليها .
وهو ما يستدعي إعادة تعريف الواقعية بشكل جديد يشتمل على احتمالات تفسيرية حول مدى واقعية سرد الحيوان في النصوص الأدبية وكيف يمكن مقابلة نماذج هذا السرد بما اعتاد قراء الأدب التعامل معه في الواقع الموضوعي. وتنقل باركز عن منظر الواقعية فريدريك جيمسون قوله: ( إن عالم الروائيين الواقعيين العظماء في القرن التاسع عشر لم يكن عالما طبيعيا، بل كان تاريخيا. ومن ثم، تتطلب الواقعية تعريفًا) .
إن مسألة إعادة تعريف مفهوم الواقعية، تعني – بحسب باركز- أن نتجاوز المستوى النصي من ناحية اللغة التي حولها يتمحور السرد إلى مستويات أخرى ثقافية وبيئية، حيث المحاكاة لا تكون في انعكاس الواقع داخل السرد، وإنما في إمكانية صنع واقع جديد على وجه التحديد، فيه للحيوان موقع مهم وخطير ككائن يفكر ويشعر وله تجربة في هذا العالم. وهو ما يندرج تحت باب دراسة سرد الحيوان ونقده، التي هي جزء من (دراسات الحيوان الأدبية ) وأحيانا يطلق عليها مسمى (نقد حديقة الحيوان ) واقترحه سكوت دي فريز في كتابه (مخلوقات غير مريحة: نقد الحيوان: الأخلاق وتمثيل الحيوانات في السرد والشعر الإسباني الأمريكي) 2016 .
ولا شك في أن وضع تصورات جديدة لواقعية سرد الحيوان سينطوي على فهم جديد للحيوان سواء في موقعه في البيئة الطبيعية أو في فسيولوجية خلقه وخلق الإنسان، مما كانت النظرية الداروينية قد طرحته حول أصل الأنواع، وعليه اعتمدت باركز في اجتراح مفهوم الواقعية المغلوبة، مركزة تركيزا واضحا على العلاقات المتبادلة داخل العالم الطبيعي ما بين الإنسان والحيوان. ولا مناص من أن يستدعي عرض هذه العلاقات استجابات قرائية سواء من ناحية تأملها أو من ناحية تحليلها. إذ لم تعد الواقعية تعتمد على استنساخ الطبيعة بشكل انعكاسي، بل تعتمد على اكتشاف الروابط والتشابكات الثقافية الخفية بين الإنسان ومحيطه العضوي والإيكولوجي، وخاصة تلك الموجودة في عالم الحيوان. فيكون الواقع فضاء مفتوحا، يطرح بشكل غير محدد عددا من الرؤى والألغاز حول علاقة البشر بالكائنات الحية.
وإذا كان سؤال باركز حول الماهية قد انتهى بها إلى طرح الواقعية المغلوبة، فإن سؤال النموذج اتجه بها نحو تبني منظورات النقد البيئي الذي فيه الإنسان عنصر من عناصر الطبيعة، و(على الرغم من أننا لا نتعامل مع الطبيعة في الأدب بوصفها تقليدا، فإن العالم المتخيل موجود بشكل واقعي - حتى لو كان ذلك وهميًا- وفي مكان قريب منا، وقد يؤثر في القراء بطريقة تجعلهم يستجيبون إليه، لقربه من الواقع ولأنه قائم على الطبيعة، ويتحرك بشكل غير محسوس بين داخل النص وخارجه).
وفي إطار البحث عن نماذج من سرد الحيوان، انتقت باركز تمثيلات معينة، فيها تتجسد الواقعية المغلوبة. واستندت الى مفاهيم تصب في باب نقد الحيوان، منها (سرد حديقة الحيوان) وتعني التمثيلات التي بها يقدم الحيوان تجربته ويعرض وجهة نظره، ومنها أيضا مفهوم ( ما بعد الإنسان في الأدب)، وفيها يمكن أن يكون للحيوان صوته الفعلي في الأدب وله مشاعره وعلاقاته وبالشكل الذي يجعل تجربته في متناول القراء كما في رواية (الجميل الأسود) لآنا سيويل و( فلاش) لفرجينيا وولف. وتستعين باركز بثلاثة من استراتيجيات ( النقد البيئي ما بعد الاستعماري) وهي 1/ نص الثقافة الذي يمنح الاستقلالية للحيوان ويعطيه المركزية و2/ التفكير في أساليب تحقق هذا الاستقلال 3/ تبعات هذا الاستقلال في توسيع نطاق المعرفة.
ومن خلال تطبيق هذه المفاهيم على النصوص السردية والأعمال الفنية، تتوصل باركز إلى أن هناك تناقضا في فهم الواقعية عند نقاد البنيوية من ناحيتي “الوظيفة المرجعية” عند رومان جاكوبسون ومفهوم “الواقع النصي” عند رولان بارت. ذلك أن التخلي عن المرجعية في تحليل الاستعارة داخل الحكاية أو القصة إنما( ينطوي على خطر الاغتراب، الارتباك، والتجريد من المعنى ) فتبدو ظاهريًا عن الحيوان، ولكنها واقعيا عن الإنسان. ومن هنا اتجهت باركز في تحليلاتها النقدية نحو الاهتمام بالمرجعية في الروايات التي فيها يؤنسن الحيوان وضمن حدود أنثروبولوجية فيها يتم التعبير عن تجارب الحيوان في عالم آخر غير عالم الإنسان، فتغدو الطبيعة مجسدة بشكل جديد يحتاج معه الخطاب الواقعي إلى إعادة تأصيل، تتناسب مع التحديات البيئية الراهنة.