مرتضى الجصاني
بداية، علينا أن نفهم مصطلح المحاكاة في الفن بصورة عامة، وأعني الفن التشكيلي، حيث تقول هذه النظرية بأنها نقل الواقع بكل تفاصيله إلى اللوحة وبكل أمانة، وبذلك سيصبح داخل العمل الفني يحاكي خارجه الذي هو الواقع، وهذا المبدأ عرف قديما في مدارس الفن ويكاد يكون هو المبدأ الأساسي للتصوير والتمرين أيضاً، وبما أن الرسم هو نقل الواقع الخارجي بتفاصيله الدقيقة، يتطلب ذلك نقل صورة كل ما موجود في الواقع من طبيعة وأشخاص وجماد وحيوان، وهذا يظهر جلياً في أعمال كبار الفنانين في الرسم، ويكاد يكون مقياس الإبداع هو الإتقان في هذا المجال، ومنه تطور إلى أشكال مختلفة من الفن، لكن ما يهمنا هو مفهوم المحاكاة في الفن، وماذا تعني في الخط العربي أو الفن الإسلامي . بما أن الفن الإسلامي والخط العربي ينطلقان من منطلقات جمالية مختلفة ومعروفة بنفس الوقت ، إذ يتبنى الفن الإسلامي فكرة تحريم أو كراهية محاكاة الإنسان والحيوان وكل ما له روح، لكنه يجد بديلاً عن ذلك، فهو بعد أن جرد الفن وأصبحت الأرواح على شكل حرف مجرد أو زخرفة في ورقة، لم يجد مشكلة في محاكاة هذه التجريدات، بمعنى آخر وضع الفن الإسلامي والخط العربي بالخصوص نظرية بديلة عن المحاكاة في الرسم واستبدلها بالمحاكاة المجردة التي نعني بها محاكاة اللوحة الخطية، ومحاكاة اللوحة الخطية تعتمد على نفس المبدأ الفني العالمي، لكنه مبدأ مجرد من الأرواح التي لا يحث عليها الفن الإسلامي. وبالعودة إلى مصطلح المحاكاة في الخط العربي، لا يمكننا تحديد فترة ظهوره بالضبط، لكننا يمكن أن نرصد أول لوحة تركيبية للخطاط راقم أفندي 1212 الذي يعد الأب الحقيقي لتطوير الخط العربي وإدخاله في حالة فنية عالية من تفاصيل وتراكيب فنية، وحتى على مستوى قوة الحرف، وإن كان أسلوب التقليد هو منهج التعليم والتمرين في الخط العربي، لكننا نتكلم عن المحاكاة، وهي مرحلة متقدمة عن التقليد، وبما أن أغلب البحوث والدراسات تتناول المحاكاة من جانب تاريخي وفلسفي وتورد آراء الفلاسفة في ماهية المحاكاة، وبذلك يضيع المراد من معنى المحاكاة في الخط العربي، وعلى الأغلب تنتهي الدراسة أو البحث مع توصياته دون النتيجة المطلوبة عن شكل المحاكاة وأعني الشكل الفني . إن الخط العربي كما نعرف يتبنى مفاهيم فلسفية إسلامية على مستوى الشكل الفني، وبذلك هو لا يخرج عن نطاق هذه المفاهيم والقيم الفنية، أعني بذلك أنه لا يمكن إقحام الخط العربي ضمن مفاهيم لا تتفق مع شكله الذي يتبناه، فالمحاكاة شكل من أشكال الخط العربي الذي تطور ووصل إلى ما نعرفه من دون تبني فلسفة محددة، بل إنه تطور على أيدي الخطاطين أو جمهرة من الخطاطين المجودين الذين وصلوا إلى مكانة من الخط عالية تمكنهم من الإحساس بالعمل ومحاكاته بصريا، ومن ثم يدوياً، فتظهر اللوحة كأنها نسخة ثانية لنفس الخطاط، لكن فيها شيئا مختلفا كأنها تمتلك روحا داخل خبايا الحروف، هذه الروح هي لمسة الخطاط، وهذا لا يظهر لعين المتلقي العادي إلا إذا كانت عينه متدربة بصرياً في شكل الحروف، ومن هنا لابد من توضيح ماهية المحاكاة في الخط العربي، وهي مفهوم مختلف عن المحاكاة في الفنون الأخرى من حيث التقنية، إذ يحاكي الخطاط شكل الحروف وتراكيبها، ولكن بروحيته ولمسته، لذلك لابد للمحاكاة من أن تكون أولا بصريا، ونعني بها أن تتمرن العين على أشكال ومسارات الحروف وزوايا كتابتها وأن تتشبع في تفاصيلها تشبعا علمياً قائما على خزن الشكل في اللاوعي عند الخطاط، بحيث يصبح جزءا من تفكير وخيال الخطاط نفسه، ويتركه على هذه الحال يأخذ من ذات الخطاط وروحه ويتماهى مع اختلاجاته ويسري في دمه وعروقه، حتى يشكوا بأن هذا الخطاط الذي سيكتب المحاكاة يحاكي الخطاط الذي سبقه روحياً، كأن روحا تحكي مع روح همساً وحديثاً بين قرون وأزمنة مختلفة، وكأنه صدى يتردد بين روح وروح، لذلك أعتقد بأن هذا المفهوم هو حقيقة المحاكاة، أن تخرج اللوحة الخطية في شكلها الخارجي مقاربة للخطاط الأصل، لكنها تشبه الخطاط الذي يحاكي العمل ، وعندما يتحول هذا الكم الهائل من الأحاسيس إلى محركات تدفع الخطاط إلى أن يبدأ الكتابة، سيعمل الخطاط على تمرين اليد، ويراد من تمرين اليد تعويد يد الخطاط على نسق محدد من الحركة لأداء اللوحة الخطية المراد محاكاتها، وهنا ننتقل من مرحلة العين والعقل إلى مرحلة اليد، وكأن هذه الصور التي التقطها الدماغ للحروف عن طريق العين تنزل لتكون شيئا على الورق عن طريق اليد، حيث يبدأ الخطاط يسير القلم وفق ما خزنه من أشكال للحرف حتى تكتمل حالة المحاكاة بأركانها الثلاثة العين، العقل، اليد .
المحاكاة وسيلة وليس غاية
يتعامل بعض الخطاطين مع المحاكاة على أنها صورة عن العمل الأصلي، فيجهد الخطاط نفسه في التقليد حتى يصل إلى نفس الحرف المراد محاكاته، وبذلك يغفل الخطاط أنه يسير في طريق التقليد وليس المحاكاة، ويكون لوحة خالية من إحساسه هو وكأنه يكتب بإحساس غيره، غير أن المحاكاة هي وسيلة وليست غاية، بمعنى أنها إما أن تكون الغاية منها التمرين وتدريب اليد على شكل محدد من الكتابة، وبذلك تكون مرحلة من مراحل الخطاط التي يتجاوزها إذا ما أراد أن تكون له لمسة خاصة به، وإما أن تكون المحاكاة طريقة لتنفيذ العمل ذاته ولكن بروحية مختلفة، وهنا يريد الخطاط أن يثبت لمسته وإحساسه، وبكلا الحالتين يبتعد الخطاط عن التقليد الأعمى الذي لا غاية منه سوى التقليد، لأنه سيبقى يدور في فلك صاحب العمل الأصل، وهو بذلك لا يشق له طريقاً أو أسلوباً مميزا عن غيره، وإنما يدور في حلقة مغلقة لا تصل به إلى نتيجة حسنة . إذن المحاكاة هي وسيلة لقول شيء جديد أو هي وسيلة للتمرين، وهذا يعني أنها ليست الغاية المطلوبة في العمل الفني ، وهي ضرورية في مرحلة ما، وأهميتها في ضبط مسار اليد وترويضها على أن لا يبقى الخطاط حبيس المحاكاة إلى الأبد، فهذا يصنع منه نسخة ضعيفة لا شخصية لها في مجال الخط العربي، وأن يتجاوز هذه المرحلة مع تكوين أسلوب خاص به يمكن أن يشار له إذا ما جرت مقارنته مع أعمال الآخرين .