تحديات الاستدامة البيئيَّة الخضراء

منصة 2024/02/18
...

     الأستاذة الدكتورة جيهان بابان

 يتعاظم الاهتمام بالقدرات غيرالمسبوقة التي أطلقها الذكاء الاصطناعي، خاصة الأحدث منها القادرة على الاستشعار والفهم والتواصل والتعلم، والقادرة على تحقيق ما يعجز عنه العقل البشري في التعامل مع كميات ضخمة من البيانات والمعطيات والمعلومات التي يخزن منها حالياً في مراكز البيانات العملاقة بحدود 175 تريليون كيكا بايت (زيتا بايت)، بل وبشرت بحلول عقد جديد من القرن الحادي والعشرين تنطلق فيه قدرات علمية هائلة للابتكار في مناحي الحياة كافة، ومن ضمنها صناعات الطاقة والبناء والزراعة والبيئة والتعليم والصحة وسوق العمل، على سبيل المثال لا الحصر. ويعود ذلك الى استخدام الحاسبات العالية الدقة والسرعة في تنقية وإدارة كميات هائلة من البيانات والمعلومات، وحل المعادلات الرياضية وفي التعامل مع الخوارزميات.

 و قد اهتمت الأمم المتحدة أيضاً، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لفهم ديناميكيات المناخ والتنبؤ بتبعات التغير المناخي، ودعم إجراءات التخفيف والتكييف التي تشكل أهم استراتيجياتها للتصدي لفوضى المناخ الذي شمل كل بلدان العالم من أعاصير وفيضانات وسيول وحرائق الغابات وارتفاع مستوى سطح البحر. 

ففي 26 تشرين الأول من عام 2022، أعلنت الأمم المتحدة عن تشكيل لجنة استشارية متخصصة بالذكاء الاصطناعي للاستفادة من ما يمكن أن تقدمه من حلول للتحديات المناخية التي يواجها العالم ووضع المخرجات في متناول صانعي القرار. 

وتستطيع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي (للاختصار تذا) عبر تحليل الكم الهائل من البيانات تقديم صورة عن سير تحقيق أهداف الاستدامة للأمم المتحدة التي عددها 17. وفي دراسة قام بها عدد من المتخصصين عام 2020 دعمت هذه الوجهة ولكن، أكدت على أهمية وضع ضوابط ومعايير أخلاقية وقيمية لاستخدام تذا.

 ومن الجدير بالذكر أن الحكومة العراقية الحالية أبدت اهتماماً باستخدام هذه التقنيات الحديثة لدعم ولتسريع التنمية الأقتصادية والاجتماعية المستدامة المنشودة، وهي خطوة مهمة تقلل الفجوة في استخدام العلم الحديث بين العراق والبلدان المتقدمة، ولكن من الضروري أن تنعكس في المناهج والبحوث المتعلقة بهذه التقنيات في الجامعات العراقية، لبناء كوادر ومهارات وطنية قادرة على تحقيقها وتطويرها.

باختصار، تمثل «تذا» منظومة من العلوم الرقمية والتقنيات المرتبطة بكفاءة حاسبات عملاقة وعالية القدرة المبرمجة على تحليل كميات هائلة من البيانات الخام وبسرعة قياسية، والتي توفر للحكومات والشركات العملاقة فرصاً لتحسين الأداء وخفض الكلفة. 

وخلال هذه العملية تنقى البيانات الخام من الشوائب ويعاد تنظيمها وهيكلتها بما يجعل المخرجات التي عادة تكون على شكل قاعدة بيانات ممكنة التحليل عبر استخدام برامج رقمية وخوارزميات والتي بدونها تحتاج إلى سنوات للتعامل معها. ففي مؤتمر الأطراف المناخي كوب 28 تم التوقف عند دورها في التصدي لتحديات التغير المناخي في جعل برامج التخفيف والتكيف أكثر فاعلية وذات جدوى اقتصادية، أو في التعامل مع الكميات الضخمة من البيانات المتعلقة بالطقس من الأقمار الصناعية، للكشف عن الأنماط المناخية وتحسين التنبؤ بتقلبات الطقس، وجعل طرق النمذجة أكثر كفاءة، مما يجعل التوصيات أكثر دقة يمكن تقديمها إلى الجهات الحكومية والمجتمعات المهددة بالخطر نتيجة العواصف والفيضانات والحرائق بوضع منظومات للاستشعار والإنذار المبكر ورسم برامج فعالة للتصدي لها والتخفيف من أضرارها. فمثلا لدى الأمم المتحدة برامج في افريقيا تستخدم الذكاء الاصطناعي لدراسة تأثير التغير المناخي على النزوج نتيجة الجفاف، وتحديد المناطق المهددة بالخطر، وعلى أساسها وضع برامج الممكنة التنفيذ لمواجهة الجفاف والتصحر والذي قد يشمل جميع العالم بحلول 2027.  ومن التحديات البيئية التي يمكن أن تفيد فيها «تذا» هو تحديد مستويات تلوث الهواء والماء الذي يشكل خطراً على الصحة العامة، وعلى أساسها يمكن وضع برامج للتخفيف من حدة التلوث. ومن الميادين التي يتطور فيها بسرعة، هو دور «تذا» في تحقيق الحياد الكربوني على مستوى العالم لمنع ارتفاع درجة حرارة الكوكب أكثر حسب اتفاقية باريس للمناخ 2015 عبر رفع مستوى كفاءة استخدام الطاقة وتقليل الهدر والانتقال التدريجي إلى طاقة متجددة خضراء، كذلك في مجال التحول إلى طرق للإنتاج الزراعي مستدامة حديثة لتعزيز الأمن الغذائي، ولتقليل انبعاثات غاز الكاربون والميثان، خاصة وأن قطاع الزراعة مسؤول 22 بالمئة من الانبعاثات.

ولكن مع كل هذه الإيجابيات، هناك تبعات بيئية وأخلاقية واجتماعية تحتاج التعامل معها لضمان الاستفادة القصوى وطنيا وعالميا، والتي حظت باهتمام عدد غير قليل من موظفي شركات التكنولوجيا الرقمية، الذين طالبوا الشركات العملاقة التي تطور «تذا» على مراعاة دورها المزدوج تجاه تحديات التغير المناخي، والتأكيد على سياقات اطلق عليها «الذكاء الاصطناعي الأخضر». ويمكن تلخيص التبعات البيئية لاستخدام تذا بأربعة جوانب:

 أولاً: تراكم النفايات الإلكترونية التي قدرت عام 2019 نحو 59 مليون طن متري، والتي تتصدرها الولايات المتحدة والصين، والتي تتطلب معالجات للتقليل من مخاطرها عبر اتباع سياقات الاستدامة في مراحل استهلاك وتجديد البنى التحتية (تشير الدراسات أن الأجهزة الالكترونية منذ 2012 يتم تحديثها أكثر مما أعتقد سابقاً) وتحديث وادامة الأجهزة  والحاسبات المستخدمة في مراكز البيانات عبر اتباع سياقات الاقتصاد الدائري الذي يؤكد على التدوير، وإعادة الاستخدام واستخراج المعادن الثمينة والنادرة منها، مثل البلاتين والنحاس التي يمكن إعادة استخدامها.  

ويمثل تراكم النفايات الألكترونية في المكبات قنبلة موقوتة لاحتوائها على مواد سامة مثل الزئبق والكاديوم والرصاص، والتي هي مصدر تلوث للتربة والمياه السطحية والجوفية والبيئة الحيوية التي تعيش فيها الحيوانات والنباتات. وفي العراق هناك ضرورة لرصد وتطبيق التعامل المستدام مع النفايات الألكترونية التي غالباً ما تنتهي في المكبات وأحواض الأنهر.

 ثانيا: تحتاج التكنولوجيا الرقمية، وبشكل خاص مراكز المعلومات العملاقة الى مصدر دائم ومستمر للطاقة، والذي يعني وجود بصمة كاربونية. وبسبب التطور المتسارع من المتوقع أن تزداد نسب الانبعاثات من البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى 14 بالمئة بحلول عام 2040 والتي تتطلب سياقات فاعلة لخفضها والانتقال الى مصادر متجددة للطاقة، بما يحقق التصفير الكاربوني عام 2050. 

وفي الوقت الذي أعلنت بعض الشركات العملاقة مثل غوغل ومايكروسوفت وامازون عن نوايا الانتقال الى منظومات من الطاقة المتجددة كالشمسية أو الرياح، إلا أنها تفتقد الشفافية في إعطاء معلومات دقيقة. ولكن في ذات الوقت أشارت لجنة الطاقة الدولية إلى عدم إمكانية تصفير البصمة الكربونية بحلول عام 2050 من دون استخدام التكنولوجيا الأحدث وفي مقدمتها «تذا».  

ثالثا: الحاجة الى اعتماد ضوابط أخلاقية وقيمية في برمجة القرارات التي يتخذها الذكاء الاصطناعي وضمان موقف متوازن وسليم بين الربح والجدوى الاقتصادية وحماية البيئة، فمثلا استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في قطاع الزراعة  قد تؤدي الى الافراط في استخدام السماد الكيمياوي والمبيدات الملوثة للتربة ونظم المياه والبيئة الحيوية، إذا لم تتم برمجتها لمراعاة سياقات الاستدامة. 

رابعا: تحتاج مراكز البيانات العملاقة الى وسائل لتخفيض درجة حرارة الأجهزة وبالأساس طريقتين، أما استخدام المياه العذبة أو التبريد بالهواء، بينما سعت بعض الشركات لوضع مراكز بياناتها في مناطق باردة كالتجربة الاسكندنافية لشركة فيرنا كلوبال. 

وبشكل عام تم بناء هذه المراكز العملاقة في مناطق مختلفة من العالم على سبيل المثال أحدها في لاغوس- نيجيريا، مما يجعل تبعاتها البيئية تتباين من منطقة الى أخرى خاصة في القضايا المتعلقة بالنفايات والبصمة الكربونية واستخدام كميات كبيرة من المياه العذبة في مناطق يعاني السكان فيها أصلا من شح المياه نتيجة التغير المناخي.

الاستنتاج النهائي الذي نتوصل اليه أن استخدام «تذا» هو أشبه بسلاح ذي حدين. فمن جهة تساعد على ابتكار طرق وسياقات فعالة وضرورية للتخفيف والتكيف مع التغير المناخي ومتطلبات التنمية المستدامة، إلا أنها أيضا مصدر للانبعاثات وبحاجة الى استخدام المياه العذبة التي تتعاظم شحتها عالمياً. 

مع كل هذا فالحكومة العراقية على صواب عندما أعطت اهتماما لهذه التقنيات، والتي تتطلب رسم سياقات وطنية للتعامل معها، واستخدامها بما يتلاءم واولويات التنمية والاستدامة التي يتضمنها البرنامج الحكومي. 

وبنظرة مستقبلية ذات منظور استراتيجي يهدف الى تحقيق إنجازات فعلية سيرتبط الى حد كبير باستخدام التكنولوجيا الحديثة وخاصة تطبيقات «تذا». وقد تكون نقطة البدء في تحديد اهداف الجهة الرسمية المكلفة بمتابعة الموضوع وصولاً الى هيئة وطنية مهمتها رسم السياقات العامة لاستخدام التكنولوجيا وتطبيقات «تذا» بشكل خاص بما ينسجم مع حاجات العراق وبنيته الاقتصادية ومتوازنة تأخذ بنظر الاعتبار التبعات البيئية والأخلاقية وتعكس الشراكة والتنوع بين القطاعات ذات العلاقة، وتشخيص المعوقات وسبل تذليلها بما يدعم البرنامج الحكومي.


(خبيرة في علوم البيئة وهندسة الطاقة المتجددة والتغير المناخي)