روايات ما بعد الكولونياليَّة

ثقافة 2024/02/19
...

 د. جاسم الخالدي

محاولة د. سمير الخليل في كتابه (روايات ما بعد الكولونيالية - اليانكية) واحدة من أهم اشتغالاته النقدية الجديدة، بعد انحيازه التام، لآليات النقد الثقافي في قراءة النصوص الأدبيَّة سواءً شعريَّة أم سرديَّة، إيمانا منه، بأهميَّة هذا النقد في الوصول إلى الأنساق المضمرة التي تحملها النصوصُ الإبداعيَّة، وهو ما جعله يبحث عن مناطق تجريب جديدة في المنجز الإبداعيِّ بعد عام 2003؛ بوصفه حدثا سياسيًّا كبيراً، أنهى حقبة سياسيَّة، نستطيعُ أن ننعتها بحقبة ما قبل الاحتلال، وبداية عهد جديد، دشن، بالاحتلال الأمريكي، وما أعقبه من تداعيات خطيرة، تمثلت بالحرب الأهليَّة التي كادت أن تحرق البلاد والعباد، لولا الوازع الوطنيُّ الذي تنامى بفعل عوامل كثيرة، ليس مجال لذكرها الآن.
 ومن هنا، حاول الخليل، أن يدخل فضاء الرواية العراقيَّة، والخوض في مناطق تجريب كثيرة، ولجها الروائيون على اختلاف توجهات الآيديولوجية، للوقوف على المضامين التي برزت في كتاباتهم.                                                                                                         ولعلَّ أول ما يواجه القارئ، عنوان الكتاب، وأعني مصطلح الكولونيالية، وهو مصطلح غربيٌّ، يراد منه في الأدبيات الغربيَّة، قراءة المنجز الثقافي التي ظهر عند المستعمر (بكسر الميم)، بعد استعماره لبلدٍ ما، وتدوين نظرتهم للعالم الآخر، على سبيل المثال، ما نظرة المحتل البريطاني، للهندي مثلًا، بعد تحرره؟ وكيف ينظر إليه.                                                                                        
عرفت تعريفات كثيرة، منها: الكولونيالية نظرية تحلّل الخطاب الاستعماري وتعيد قراءة التاريخ من وجهة نظر المستعمر، تأسست على يد إدوارد سعيد وهومي بابا وغاياتريسبيفاك الذي يدعوهم روبرت يانغ (الثالوث المقدّس للنظرية ما بعد الكولونيالية)، وقد كان كتاب (الاستشراق) لسعيد كتابا تأسيسيا لهذه النظرية مارس تأثيره على كلّ من أتوا من النقاد ما بعد الكولونياليين.                                
 أمَّا في النقد الأدبي العربي، فإنَّ الصورة معكوسة، بأن يرصد النقد، تداعيات الاحتلال في الأدب والثقافة العربيتين، وأهم المضامين التي زخرت بها الأعمال الأدبيّة، وهو عين ما قام به د. سمير الخليل في هذا الكتاب؛ إذ نظر إلى ما بعد الكولونياليَّة على أنَّها “تغطي مرحلة ما بعد الاستقلال والمشكلات الموروثة والمخلّفة من قبل الاستعمار (مثل مسائل الهوية، ومسائل لسانية ولغوية، والحالة الاقتصادية أو السياسية).

 النظرية ما بعد الكولونيالية
والتلقي العربي    
وقبل أن ندخل في متن الكتاب، أودُّ أن أبيّن أمراً في غاية الأهمية، ربَّما يهزُّ أطروحة الكتاب كلَّه، وهو هل لدينا أدب يمكن أن يطلق عليه بـ (أدب ما بعد الاستعمار)؟، وستأتي الإجابة عن هذا السؤال في متن هذه الدراسات، بشكل متسلسل.  
رصد الكتاب واقع الرواية العراقية خلال حقبة ما بعد الاحتلال؛ إذ تنحصر الروايات ما بين عام 2007- 2022، وقد وقف على أهم المضامين السياسية والاجتماعيّة والثقافية، وما ترشَّحَ عنها من موضوعات، تتعلق بمسائل الهوية، والاحتراب الطائفي، والتداعيات الاجتماعيَّة التي تمخضت عن الاحتلال، حتَّى صرنا نشهد تحولاتٍ خطيرةً، هزَّت واقع المجتمع العراقي، وصرنا أمام قيم جديدة، تتنافى مع ما هو شائع في المجتمع العراقي.                                                                      
والطريف في الأمر، أنَّ اختيارات الناقد، قد تنوَّعت ما بين روايات لكتّاب محليين، أو مغتربين، وبين كتَّاب معروفين، وآخرين أقل شهرة منهم، ويبدو أن الحاكم كان اقتراب هذه الرواية من عنوان الكتاب أو عدمه.                                        
وقد استهلَ الناقد الكتاب، بقراءة رواية (ذئاب على الأبواب) لأحمد خلف، باحثًا عمَّا يجسِّد “حالات الوجع العراقي، والاستلاب السيكولوجي، وتوثيق إفرازات الواقع اليومي والتشظِّي التاريخيّ، ممثلاً بالحرب والحصار والإرهاب والعنف”.      
ما يلحظ على هذه الدراسة، أن الناقد، وسَّعَ من دائرةِ اهتمامِه النقديّ؛ لتشملَ كلَّ معطياتِ نقدِ ما بعدَ الاستعمارِ، كما أفضل تسميته؛ لأنَّه مصطلحٌ بجلبابٍ عربيٍّ، وشائعٌ في تداوليةِ القول العربي، وهو ما جعله يتوقف عند الموضوعات الأكثر هيمنةً في خطاب ما بعد الاستعمار، فكان موضوعُ الاستلاب النفسي، واحداً من الموضوعات التي سلط الناقد العناية بها، وهو من أهم مفاهيم النقد ما بعد الكولونيالية، إلى جانب “الهوية وقضاياها الشائكة كجدلية الأنا والآخر المتمثلة بـ الشرق/ الغرب)”.
 فصام الهوية بين أنوثة قاهرة ورجولة مقهورة: قراءة ما بعد كولونيالية في رواية” العطر الفرنسي” لأمير تاج السر.                                                        
ومن هنا، كان الناقد راصداً للحس الثقافي الذي بدأ يجتاح متن الرواية العراقية، نتيجة لتسلل الأطروحات النقدية إلى الوعي الروائي، والعناية الكبيرة منه في ما يطرح من موضوعات حداثية وما بعد حداثية في النقد الغربي، ووصولها إلى النقد العربي، منها مفاهيم المنهج وما يحيطه من موضوعات وأفكار وتقنيات، وغيرها.            
وفي هذا المجال، يناقش الناقدُ، شخصيّاتِ الروايةِ، وما تعاني منه من أزمات نفسية خانقة، من قبيل: “القلق والمطاردة والتهديد.. والتمزّق؛ بسبب الحروب والحصار والاحتلال والاحتراب الداخلي وما تسببُهُ من مسخٍ للذاتِ ومحوِ الفرديّة”. إنَّ ما يحسبُ للناقدِ، وإن كان فيه خروج على آليات المنهج المتّبع، قد توقف عند بعض الشذرات الفنيّة، من قبيل: حديثه عن المكان والزمان، والسرد، والتقنيات المتمثلة بالحوار التي حضرت في الرواية، وغير ذلك، وهو قراءة فنية بامتياز فيها خروج على روح المنهج المنتدب، لكنه خروجٌ محمودٌ، كما أوضحت قبل قليل.      
يبدو للوهلة الأولى أنَّ الكتابَ عبارةٌ عن مجموعةٍ مشظيِّة من الدراسات، كتبها الناقدُ في أوقاتٍ متباعدةٍ، جمعها في مكانٍ واحدٍ، لكن مَنْ يقرأ الكتاب برمته، يجد أنَّ هناك همًّا نقديًّا مسيطراً عليه، يمكن تلمسه في دراسته الثانية، الموسومة “الميتا سرد وفانتازيا التشظي في رواية (تابو) للروائي حميد المختار.                                    
ولعلَّ من المهم القول، إنَّ الناقد يستهدف في اختياراته الروايات ذات التوليفة المركبة، سواء “في تعدد مستويات السرد، وتوظيف عناصر (الميتا سرد)، والتوغل في الغرائبية، وصياغة نزعة حداثية في نمط السرد القائم على تشظي الرؤية، وتهشيم وحدة المتن الحكائي”.                                                                                  
وواضح أنَّ المصطلحاتِ التي اكتنزها القولُ السابقُ، هي عبارةٌ عن موضوعاتٍ كثيرةٍ، وهي بحدِّ ذاتها، تصلحُ أن تكون مقدماتٍ جيدةً لدراساتٍ أكاديميّةٍ رصينةِ، ولكن المرور عليها بهذه العجالة، يشتتُ الرؤيةَ النقديةَ، ويخلُّ بروحِ المنهجِ.            
لقد أُعطى الناقدُ للموضوع عنايةً قصوى في هذه الدراسة، وربطَها بعناصر الرواية الأخرى، فهو يربط بين “ولوج الأمكنة المظلمة والعوالم الخفية والمعقدة”، كما يناقش موضوعات ذات بعد فلسفي، بحسب ما يشير الخليل، من قبيل، موضوع الشيطان، الذي يعدُّ موضوعاً دينيًّا خالصاً.  
ومن جهة أخيرة فهو يعدُّ هذه الرواية رواية سيرة واعتراف، اعتراف الراوي، أو اعتراف الإنسان نفسه، “في أعلى درجات سخطه وغضبه على واقعه”.
إنَّ الواقعَ الاجتماعيَّ الذي كشفَ زيفَهُ، الروائيُّ حميد المختار، ليس من تداعيات الاحتلال، بل هو واقع أسهمت في صنعه عواملُ اجتماعيّةٌ وسياسيّةٌ كثيرةٌ، ليس مجال ذكرها الآن.                                                                                
يبدو أنَّ إيمانَ الناقدِ بضرورةِ إيجادِ منهجٍ نقديٍّ، لا ينحصرُ في حدودٍ ضيقةٍ، ولا يُعنى بجانبٍ دونَ جانبِ آخر، فإن كانت القراءة الثقافية، سواءً النقد الثقافي أو الدراسة الثقافية، هي المهيمنة على رؤية الناقد، فإن الجانبَ الفنيَّ حاضرٌ في كلِّ قراءةٍ لهُ، فهو يرصدُ الواقعةَ الثقافيّةَ، ومن ثمَّ يسببها فنياً للوصول إلى نتائج علميةٍ في غايةِ الدقة، وما هو يجعله يبتكر منطقةً نقديةً محايدةً، تأخذ من النقد الأدبي آلياته واشتغالاته، ومن النقد الثقافي والدراسات الثقافيّة آلياتها واشتغالاتها.                                
إن هذا المسعى النقدي، لن يقف عند حدود القراءةِ الواحدةِ، بل هو يطمح أن تتنوع العينة التطبيقيّة، لتشمل الرواية النسوية العراقية، عبر مجموعة من النماذج الكتابية النسائية، كالروائية: (لطفية الدليمي، وميسلون هادي، وأنعام كجه جي، وهدية حسين، والهام عبد الكريم وعالية طالب وعالية ممدوح وبتول الخضيري)، وهي تشكل نسبة الـ (50 بالمئة) من الكتاب.                                                                    
فجميعُ ما لفت نظره، في هذه النماذج التطبيقيّة، هو الخوض في الموضوعات القارة ثقافيّاً التي تتعلق بعالم النساء من جهة، والاحتلال وتداعياته من جهة أخرى، وهو ما تجسَّدَ في رواية لطفية الدليمي، (سيدات زحل)، وفي رواية ميسلون هادي (نبوءة فرعون)، تعود الروائية إلى حقبة التسعينيات؛ لتسجل وقائع الحصار، وحرب الكويت، وما تبعها من تداعيات خطيرة، وما تفيض به الذاكرة من وقائع تاريخيّةٍ، تنهضُ بسرده شخصيات هذه الرواية. لم يكتفِ الناقدُ بهذا التوهجِ الثقافيِّ فحسب؛ بل نجده أيضاً، يذهب باتجاه القضايا الفنيّة التي تزخر بها الرواية، بدءاً من عنوانها، واستهلالها، وصولاً إلى متنها، مثلما هو معنيٌّ بالشفرات أو العلامات الثقافية التي يقف عندها في الرواية، من مثل: أسماء الشخصيات، كاسم يحيى، او أسماء بعض الأشياء التي اختصت بمرحلة الحرب والحصار، أو بعض المفردات الاجتماعية ذات الطابع الديني، أو بعض الطقوس الرسمية التي كانت تقام في ذلك الزمن.            
والطريفُ في الأمرِ أنَّ هذه الروايةَ، وغيرَها، بحسب الناقد، هي إدانة للنظامِ السابقِ وممارساتِه واستبدادِه الرمزي والعياني، مثلما هي إدانة للنظام الدولي وللاحتلال بشكل عام.                                                  
وحين نقف عند (طشاري)، فإنَّه الناقد يبقى يدور في فضاء موضوعات الرواية العراقية ما بعد الاحتلال والتقنيّات التي اخذت بالانتشار، منها: موضوع الهوية، والعناية المفرطة بالعتبات النصية، كعتبة العنوان، وعتبة الاستهلال، مثلما تتناول القضايا ذات الطابع الفني التي تتعلقُ بالراوي وأنواعه، ووصف الأمكنة والأزمنة، واللغة، غير ذلك.                                                              
ويستمر الناقد على هذا الحس الراصد، لكل تحوَّل ثقافي/ موضوعاتي، في جسد الرواية العراقية بعد الاحتلال، ليقف على رواية هدية حسين (نساء العتبات)، وهي لا تختلف عن سابقاتها في معالجة موضوع الحرب والحصار، والتداعيات الخطيرة التي رافقتهما. والتعامل مع المرأة، واستلاب النساء بشكل عام، شكَّل الموضوعَ الرئيسَ في الرواية.                                                                                
ويبدو أن هناك نسقاً واحداً سار عليه الناقد في دراساته، يتمثل بالتركيز على موضوع ما بعد كولونيالية، وهي بعمومها موضوعاتٌ عالجها النقدُ الثقافيُّ، ومن ثم يسلطُ الضوءَ على بعض القضايا الفنية أو الثقافيّة ذات البعد الفكري. فهو مثلا، يتحدث عن تقنية المونتاج السينمائي لرواية الأحداث. أو حديثه عن لغة الرواية؛ ولا سيَّما التوظيف المزدوج للغة المحكيَّة والفصحى؛ بحثاً عن جماليّة الأداء، والتركيز على الفكرة.                                                                                      
وفي (الصمت) لإلهام عبد الكريم، فإنَّ الموضوعَ الذي رصده هو الاحتلال، بوصفه بؤرةً مركزيّةً في الرواية، وهي إشارة وترميز إلى كلِّ احتلال، يتعرض له العراق. لكن ملاحقة هذا الموضوع، لا تمنعه من سبر أغوار النص والوقوف على جوانبه الفنية، مثل حديثه عن المكان وتحولاته التي عدها الناقد، جزءاً من تحولات الشخصيّات، وتحولات الحكايات المرتبطة بالمكان، أو حديثه عن الرموز التي اكتنزت الرواية من مثل: رمزية الحمام، الذي يمثل بديلاً للحرية والانعتاق من ربقة الواقع وإشكالياته. أو حديثه عن ارتباط الزمن بالشخصيات، وأنه عكس قلق الشخصيات وتوترها، وإحساسها بما يجري من أحداث.                      
وعند حديثه عن (قيامة بغداد) لعالية طالب، فهو يعدُّ هذه الرواية تسجيليَّةً، لأنَّها رواية واقع، فهو يمر على النماذج الإنسانيّة فيها، من الأب، والأولاد، والأقارب، والأصدقاء، وهي نماذج تبحث عن الحياة، كما يصفها الناقد.                  
إن النماذج الأخرى التي استهدفها الناقد، لا تبتعد عن تلك النماذج التي وقفنا عندها، فقد كان موضوع ما بعد الكولونيالي، المتمثل بالبحث عن تداعيات الاحتلال في الذات العراقيّة، وما رافقه من بروز موضوعات: الحرب، والحصار، والهوية، والضياع والتشظي، أو الموضوعات التي تتعلق بالمرأة، مع ظهور ما يسمى بالنسويّة.        
إنَّ الكتاب، قد استهدف نماذجَ تطبيقيةً مهمةً، تمثلُ معظمَ الطيفِ الروائيّ العراقيّ، بعد عام 2003، وكان عنوان الكتاب، دالاً على متنه، لكن الملاحظة التي يمكن أن نسجلها، أنَّ الكتاب خلا من فصلٍ تمهيدي يتناول هذا المصطلح بالقراءة والتحليل، للوصول إلى تعريف جامع شامل لهذا المصطلح، ويمكن أن تأتي الروايات تطبيقاً واقعيّاً. فضلاً عن ضرورة توزيع الدراسات على فصولٍ بحسب موضوعاتها وقضاياها الثقافية والفنية.