{فلسطين أمِّي والعراق خالتي التي ربَّتني}

منصة 2024/02/22
...

الطبيب النفسي الدكتور علي كمال، فلسطيني ولد في العام 1918 بمدينة عنبتا - الواقعة بضواحي جنين، في أسرة مثقفة شكلت لديه اهتماماً مبكراً في الأدب أسهم في تنميتها خلال الدراسة الثانويَّة في القدس زميلهُ الأديب الكبير جبرا إبراهيم جبرا.

ويعدّ هو واثنان آخران أشهر ثلاثة أسماء مهمة في ميدان علم النفس أسهموا بتأسيس وعيٍ سايكولوجي مبكرٍ في العراق بالأمراض العقليَّة والاضطرابات النفسيَّة، الأول هو الطبيب النمساوي هانز هوف، أحد تلاميذ عالم النفس سيجموند فرويد، هاجر من النمسا الى العراق عام 1938 وعمل أستاذاً في الكليَّة الطبيَّة الملكيَّة ببغداد. 

والثاني هو الدكتور جاك عبود، طبيب يهودي عراقي شهير من أوائل الدارسين في الكليَّة الطبيَّة الملكيَّة ببغداد ومؤسس مستشفى الشماعيَّة.

أما الثالث فهو الدكتور علي كمال، المتخصص بعلاج الأمراض النفسيَّة والعقليَّة الذي دعي من بريطانيا عام 1951 للعمل ببغداد، وتمَّ تعيينه بتوصية من تحسين قدري رئيس تشريفات القصر الملكي في الكليَّة الطبيَّة الملكيَّة، وعاش وعمل في العراق أستاذاً ورئيساً لقسم الصحة النفسيَّة في جامعة بغداد طوال أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وقال عنها بصدق: (فلسطين أمي والعراق خالتي التي ربتني).

طبيبٌ نفسيٌّ وأديبٌ أيضاً

كنت طالباً في المرحلة الرابعة بقسم علم النفس، ودخل الدكتور علي كمال ليلقي علينا محاضرة في الصحة النفسيَّة الذي كنت أسمع به ولم أره، وبدأ بتبيان أهميَّة الصحة النفسيَّة ووصل الى القول بأنَّ هناك علاقة قويَّة بين علم النفس والأدب بكل فنونه، لا سيما الرواية والشعر. 

وتوجه لنا نحن الطلبة بالسؤال: من فيكم مهتمٌ بالأدب؟ 

كنت جالساً في الخط الأول، التفتُّ الى الوراء، لم أر يداً ترفع، فرفعت يدي. 

كنا نحن جيل الستينيات نحبُّ القراءة ولدينا شغفٌ كبيرٌ بالأدب، وكان مقهى (البرازيلي) ملتقى المثقفين يشبه تماماً مقهى هافانا في دمشق الذي التقيت فيه بالراحل مظفر النواب وأجريت معه حواراً. 

ودار نقاشٌ بيني وبين الدكتور علي، أدهشني أنَّه ليس طبيباً نفسياً فقط بل وأديبٌ أيضاً. 

ولحظة انتهى وقت المحاضرة ونهض، مدَّ يده لي وأخذني الى غرفة الأساتذة، وكنت أرى إعجابه بي من تعابير وجهه، فدعاني الى زيارته بمركز الصحة النفسيَّة الذي أسسه بجامعة بغداد أوائل 

السبعينيات. 

وزاد إعجابه بي، فدعاني الى أنْ أكونَ معه عصراً في عيادته بشارع الرشيد، كنت أجلس بالمكتب ذاته الذي يستقبل فيه المراجعين، وأصغي الى طريقة حواره مع المريض ونوعيَّة الأسئلة التي يوجهها له، وكان أحياناً يصفن وينظر فقط الى وجه المريض عرفت بعدها أنَّها (لغة الجسد) التي يستعين بها في فهم حالة مريضه.


الاهتمام بالأدب ورعاية الطالب

ومن المفارقات التي لا تزال مشفرة في الذاكرة، أنَّ مريضاً دخل عليه، وبعد أنْ وجه له عدداً من الأسئلة، نهض ومدَّ يده لي وأخذني الى الباب يسألني (شلونك بالدراسة، ولازم تكمل..) وترك المريض يحكي لحاله. 

ولأنني لم أطق صبراً، سألته: دكتور أشو تركت المراجع يحكي لوحده، فأجاب: (عوفه هسه يخلص)، والتفت الى المريض وقال له: (ها.. خلصت؟ يلله تعال). 

فأخذه الى غرفة أخرى وأنا معه ومدده على سرير وربط برأسه أسلاكاً وأعطاه رجة كهربائيَّة، وارتجفتُ بداخلي، وحين عدنا الى مكتبه، شرح لي حالة المريض قبل أنْ أسأله بأنَّه مصابٌ بالشيزوفرينيا وأنَّ علاجه هو الرجة الكهربائيَّة التي اعتدت عليها بعد سنوات في عملي بمستشفى الشماعيَّة

(الرشاد حالياً).

تُرى كم من الأطباء النفسيين والاستشاريين يجمع هاتين الصفتين الجميلتين في الدكتور علي كمال: الاهتمام بالأدب، ورعاية الطالب الذي ينبئه حدسه العلمي بأنَّه سيكون متميزاً؟، فضلاً عن إثرائه المكتبة العراقيَّة بمؤلفات أصيلة تشيع ثقافة التفاؤل وحب الحياة بين الذين يتملكهم الشعور باليأس.