محمد صابر عبيد
يقوم العمل الفنيّ - الجماليّ منه والأدبيّ والنقدي والفكري والفلسفيّ- على مجموعة مقومات تتحرّك على وفق إستراتيجيّة خاصة؛ تستكمل صورة المشهد الكتابيّ وتكشف عن هويته المطلوبة، بمعنى أن هذا العمل الفني في نهاية المطاف يؤول إلى مشهدية ذات طبيعة جماليّة متبلورة ومتكاملة؛ بحسب الرؤية التي يراها صاحب العمل وتستجيب لها أداته ونظريته على النحو الذي يتحقق فيه رضاه وقناعته الكاملة.
يتلقّى القارئ المشهد في صورته الختاميّة من دون أن يفكّر بالطريقة التي تكوّن بها؛ أو الخطوات التي سار بها وصولاً إلى هذه النهاية، ولا يسأل عن ماهيّة الأولويّات التي قامت على أساسها الفكرة الجوهريّة في المشهد؛ كي يبلغ درجته التأليفيّة القطعيّة على هذا النحو، بل يستقبلها بما تحويه من طبقات جماليّة تثير الإدهاش وطبقات معرفيّة تثير
لإعجاب.
تعدّ الأولويّات نموذجاً مركزيّاً لتشييد وبناء أيّ عمل إبداعيّ ينوي صاحبه الارتفاع به إلى طبقة عليا من طبقات الإبداع، ولكلّ عمل إبداعيّ أولويّاته الخاصّة به استناداً إلى طبيعته وخصوصيّته وحاجاته وأدواته وتقاناته ورؤيته، فأولويّات النصّ الشعريّ غير أولويّات النصّ السرديّ أو النصّ الدراميّ أو النقديّ أو الفلسفيّ أو غيره حتماً، بل كلّ نصّ -حتّى في مجال الإبداع الواحد- له أولويّاته المتعلّقة بطبيعة تجربته الخاصّة ورؤيته وظروف إبداعه، على الرغم من وجود ما يشبه القواعد العامّة في النصّ الأدبيّ المعيّن.
ينهض النصّ السرديّ في كلّ شكل من أشكاله المتعدّدة على شبكة من الأولويّات ترسم طريقه العامّة، ففي الرواية مثلاً لا بدّ من حضور الشكل العام القائم على رقم تقريبيّ لعدد الصفحات أو الكلمات التي ينبغي ألا تقلّ عن عشرين ألف كلمة، بما يؤلّف ما يصطلح عليه “الرواية القصيرة/ النوفيلّا” صعوداً إلى ما يفوق ذلك كثيراً لتأليف ما يصطلح عليه “رواية الأجيال”، فضلاً عن ضرورة حضور عناصر التشكيل الروائيّ الأساسيّة ومكوّناته وقضاياه ومقولاته وما إلى ذلك من
أولويّات.
إنّ هذه الأولوليّات -مهما بلغت أهميّتها وخطورتها ميدانيّاً- لا يمكنها حسم نجاح الكتابة الروائيّة؛ من غير حضور الفاعل الكتابيّ الأساس القادر على إدارتها، ومن ثمّ التصرّف بها على النحو المناسب والدقيق والإبداعيّ الخلّاق لاستكمال صورة المشهد فنيّاً وجماليّاً وتداوليّاً، فبلا أولويّات ضروريّة -لا يمكن الاستغناء عنها- يستحيل النجاح في إنتاج رواية يكون لها تأثيرٌ بيّنٌ في مجتمع التلقّي، ومن غير خضوع هذه الأولويّات للتقانات الفنيّة المعروفة بشروطها الجماليّة لا يمكن أيضاً حصول هذا النجاح.
يمثّل تعيين الأولويّات لدى الكاتب فلسفته في التأليف والكتابة والإبداع بما يميّز كاتباً عن آخر حتماً، فمن هنا تنطلق الشرارة الأولى التي تؤسّس لما نسميه “الأسلوب” حيث إنّ “الأسلوب هو الرجل” كما يقولون، ويبدأ تشكيل الأسلوب من أوّل أولويّة حقيقيّة تنطلق في سماء الكتابة ليكون البناء صحيحاً وقويماً وناجزاً ومفيداً، ولتكون نقطة الشروع ذات سند جوهريّ حقيقيّ يؤمّن السير في السبيل الصحيح للوصول إلى النتائج المرجوّة، ثم تتبعها قائمة الأولويّات بحسب تدرّجها وأهميّـها وضرورتها في بناء المشهد وتشكيل هيكله العام.
يأتي التفكير بالأولويّات ضمن رؤية إستراتيجيّة هندسيّة تضع خططاً لعمليّة البناء تضع كلّ شيء في وضعه الطبيعيّ، وتكلّفه بالمهمّة الملقاة على عاتقه بوصفه الأداة الفعّالة في هذا الجزء من أجزاء البناء، بما يجعل العمل ينهض على سلسلة مراحل تكون فيها الأولويّات مادّته الأبرز والأكثر ضرورة وأهميّة، وترتيبها وهندستها ونظامها يقوم على نشاط متراكب ومتداخل غير منفصل يجعل من العمل الفنيّ بعامّة لوحة فنيّة، أو قصيدة، أو رواية، أو قطعة موسيقيّة، أو فيلماً سينمائيّاً، تتكامل أجزاؤه بناءً على نجاح الفنّان في تشكيل سُلّم الأولويّات على النحو الذي يستجيب للرؤية ويمثّلها خير تمثيل.
ينبغي أن تكون الأولويّات محاطةً بأعلى قدر من العناية القادرة على فهم كلّ أولويّة؛ وعلاقتها بالأولويّة التي تليها ابتداءً من أوّل أولويّة تشرع في بناء المشهد الفنيّ، وأن تكون استراتيجيّة البناء ذات طبيعة هرميّة لا تقبل الخطأ استناداً إلى معطيات راسخة داخل منظومة شديدة الانضباط والتوازن، بحيث يستحيل وضع أولويّة مكان أخرى مهما كان حجم الإغراء الذي يمكن أن يوهِم الفنان ويدفعه إلى استعجال نموّ الأولويّات وتدافعها، بما يربك المشهد ويضيّع هويّـته وينتهي إلى نتائج كارثيّة لا تسمح له بالتبلور والتكوّن والتكامل على النحو المطلوب، ليكون الخطأ في هذه الحالة خطأً قاتلاً لا يُعالج مهما حظي بعناية ترميميّة أو تعديليّة أو تصحيحيّة، ومن ثمّ يؤول المشهد إلى خراب لا يندرج ضمن سلسلة المشاهد الفنيّة الراقية مطلقاً.
تتدرّج الأولويّات على وفق نظام يتطلّبه المشهد ويرتضيه ويطلبه ويفرضه أخيراً، وبعد ذلك لا يمكن التلاعب بهذا النظام الذي يوصف في المصطلحات النقديّة الحديثة بـ”الشعريّة”، فشعريّة المشهد داخل هذا النظام تقوم على توزّع الأولويّات في تشكيل صورة المشهد باعتماد الرؤية المتجوهرة فيه، ليتفاعل نظام الأولويّات بأسبقيّاته وتسلسل حركاته مع الرؤية المشهديّة التي يفرضها مستوى التعبير والتشكيل معاً، لأجل الوصول إلى المحطة الأخيرة وقد تبنين المشهد في صورته المتكاملة معبّراً عن جوهر المقولة أو الأطروحة -فنيّاً وجماليّاً وموضوعاتيّاً- كي تتحقّق إستراتيجيّة المشهد بناءً على التزام الفاعل المشهديّ بنظام الأولويّات من دون تلاعب أو تفاوت أو تهاون، يعمل على تغيير خريطة المشهد والإخلال بهندسة التشكيل فيه لتحقيق النجاح المطلوب في التصريح بهويّته القارّة والحاسمة.