مريام فريرا
ترجمة: د. رضا الأبيض
يحكى كثيرا أن غويا (1828) كان يتقاضى أجرا أكبر مقابل لوحاته إذا رغب الشخصُ (النموذج) في أنْ يرسم له يديْه.
وسنرى لاحقًا ما إذا كان هذا صحيحًا.
بيد أنّ هذه الحكاية تساعد في الكشف عن أحد التحدّياتِ الكبيرة التي يواجهها الفنُّ ألا وهو رسم الأيدي.
فلمَ يصعبُ رسمُ اليديْن؟
من الناحية الجسدية، تُعدّ اليدان إحدى أكثر الأعضاء تعقيدًا في جسمنا: فكلّ يد تتشكّلُ من سبعة وعشرين عظما وستة أنواع من المفاصل وخمسة أنواع من الأربطة والعديد من العضلات.
من المؤكد إذنْ أنه من الصّعب تجميعُ كل هذه العناصر معًا بالنّسبِ ومن الزاوية الصّحيحة.
إضافة إلى ذلك، فإنَّ صغر حجم اليد وقابليتَها للحركة يتسببان في تكوين العديد من الظلال في اتجاهات مختلفة، الأمرُ الذي يجعلُ العمل أكثر صعوبة.
وقد سلط رافائيل لومبارت (أستاذ علم التشريح في كلية الفنون الجميلة بجامعة إشبيلية) الضوءَ على صعوبةٍ أخرى، قبل بضع سنوات، وهي عدد الأشكال التي يمكن أنْ تتخذها اليد، وعددُ أوضاعها الممكنة".
ولكنّ الصعوبة الأكبرَ ليست تقنية، فما يجعل الرسم صعبًا هو أنَّ اليد تُعبّر عنَّا نحن البشر.
أكد الفيلسوف ليوناردو بولو أنّ الإنسانَ عبارة عن نظام يتكوّن من نواتيْن رئيسيتين: الوجه واليدين.
وعلى خلاف الحيوانات، فإنّ تطور البشر يعني أنه بدلاً من أنْ يكون لديهم خطم، كان لديهم وجْه، وبدلاً من المخالب كانت لهم أيادٍ.
ويُظهر لنا فيلم مؤسسة ديزناي: طرزان هذا الأمر بطريقة شعريّة.
حيث يعرف طرزان أنه ليس غوريلا مثل والديْه وإخوته بالتبني، من خلال يديْه المختلفتيْن.
ويتعرّف على جين كواحدة من أقرانه عندما يلاحظ أن لديها يدًا مثله.
ولهذا، فإنَّ الوجوهَ والأيدي هي الأعضاءُ التي تساعد الإنسان على التعبير عما يشعر به.
ولكن يبدو أنه في حالة الوجه، فإنّ الأمر أسهل قليلاً: إذا عبسنا، فإننا نعبّر عن الغضب، وإذا فتحنا أعيننا نعبر عن دهشتنا، وإذا ثنينا فمنا فإننا نعبر عن السعادة من خلال ابتسامتنا... أما بالنسبة لليدين فالأمر غير واضِح: ما هي الزاوية الدقيقة التي يجب أن تُظهرها السُّلَامَى العلوية من إصبع السبّابة في اليد اليمنى للتعبير عن الفرح؟
إنَّ كون الأيدي معبرة، وأنها "تتحدث" وتقول بالضبط ما يريد الفنّانُ أنْ تقوله هو شيء دقيق وشديدُ التعقيد.
بالعودة إلى غويا، هل صحيحٌ أنه كان يتقاضى أجرا أكبر مقابل رسوماته إذا كان لا بدّ من تصوير اليديْن؟
نعم.
هل يعني ذلك أنّ غويا وجد صعوبةً في رسم الأيدي؟ لا.
لقد كان فرضُ أجور كبيرة مقابلَ رسم الأيدي هو القاعدة المعمول وفقها بين جميع رسّامي البورتريهات، فكلما زاد عددُ أعضاء الجسم، أو كثرت المناظرُ الطبيعية، أو عدد الأشكال، زاد السّعر.
وبالتالي، فلا علاقة لهذا بحكاية أنّ غويا كان لا يُحسن رسم الأيدي.
تقول مانويلا مينا، المتخصّصة في فنّ غويا، بشكل قاطع: كان شخصًا فاضلا أكثر من سائر الرسامين.
وحكاية أنه لا يرغبُ في رسم اليدين أسطورة لا معنى لها.
لقد تمّ الدفعُ لكلّ الفنانين مقابل رسْم يديْن منفصلتيْن" .
في الواقع، كان غويا "ملازم الرسم" (مشرف ومسؤول) في الأكاديمية الملكيّة للفنون الجميلة في سان فرناندو، وهو أمْر لم يكنْ ليحصلَ عليه لو لم يكن واحدًا من أفضل الرسّامين في البلاد.
وكانت وظيفتُه كملازم هي على وجه التحديد تعليمُ كيفية رسم الأيدي.
إضافة إلى ذلك، كان عليه بسبب صممه أنْ يتعلّمَ لغة الإشارة.
وقال صديقُه زاباتر في إحدى رسائله إن "غويا يتحدّث بواسطة يده".
وهي عبارةٌ يمكن استقراؤها في لوحاته.
وبالنظر إلى صور الأيدي التي رسمها، يمكننا أنْ نرى انها جميعَها تنقل شيئًا ما: الألم، والعجز، والألم، والرقة.
لذلك، تدرّب الفنانون لسنواتٍ على رسم الأيدي التي ليست واقعيّة في مظهرها فحسب، بل معبّرةً أيضًا.
وإذا كانت الأيدي تتكلم، فذلك لأنها تستطيعُ نقلَ المعلومات بمفردها دون حاجة إلى باقي أعضاء الجسم.
بل يمكن أن تناقضَ بقية الجسم.
إنّ أحد أشهر الأمثلة في تاريخ الفن هو تمثالُ داوود (دافيد) لمايكل أنجلو.
جاء في سفر صموئيل الذي يروي المواجهة بين داوود وجالوت أنّ داوود "كان فتى وسيمًا أشقر الشعر"، وهو ما يفسر احتقار الجنود الآخرين له وجالوت نفسِه.
لكن داوود هزم جالوت رغم كلّ الصعاب. وهذا ما يُظهره مايكل أنجلو.
فجسد داوود هو جسدُ صبيٍّ وسيمٍ موصوفٍ في الكتاب المقدس، لكن يده تكشفُ عن عظمته وقوته وقدرته.
وبالنظر إليها نعلم أنه سيهزم جالوت.
إنَّ يد داود هي التي هزمت جالوت في المعركة.
وقد رسم رامبرانت شيئاً مماثلاً في لوحته "عودة الابن الضال"، وأشار القس نووين، الذي قام بدراسة اللوحة من منظور ديني، إلى أنَّ من أكثر الأشياء التي أثارت إعجابَه اليديْن اللتيْن يضعهما الأبُ على ظهر ابنه.
إنَّ اليدين، في رأيه، مختلفتان: فاليد اليسرى، القوية والعضليّة، يَدٌ ذكورية، وهي يد الأب، واليد اليمنى، الدقيقة والناعمة والحنون، يد أنثوية، وهي يد الأم.
وبالتالي فإنَّ حبّ الأب لابنه هو حبُّ أبٍ وأمّ.
وقد عبر عنه رامبرانت من خلال اليدين.
يقول هنري فوسيلون، الذي كتب "مديح اليد" إنّ الأيدي "وجوهٌ بلا عيونٍ وبلا صوت، ولكنها ترى وتتكلّم".
ولهذا السبب يصْعبُ رسم اليديْن.
إنّ رسم خمسة أصابع بخطوط مستقيمةٍ كما يفعل الأطفالُ، واعتبارها يداً ليس أمرا صعبا، أما رسمُ التعقيد الجسديِّ لليد البشريّة ومنحُها هويّةً وتعبيريّة مثل تلك التي في اليد الحقيقية فذلكَ عملُ العباقرة.
*(أستاذة تاريخ الفن، جامعة
لاريوخا الدولية UNIR)