جوليت ريكس ترجمة: بهاء سلمان
بقي رامبرانت محدقا بي حتى أدرت وجهي عنه. كان من أحد الجوانب شابا فتيا، عيناه كانت مظللتان تحت شعر أشعث، أما الجانب الآخر، فقد كان مجعدا وغائرا، وما بينهما كان مبتسما أو عابسا أو مندهشا أو واثقا تحت قبّعة واسعة الحواف في ركن خليع. إنها بداية مثالية لرحلتي بالبحث عن عظمة أروع فنان من الهولنديين بعد 350 سنة على وفاته، في مسقط رأسه الذي لم يغادره مطلقا.
ويملأ حشد من أعمال رامبرانت أول غرفة من معرض متحف ريجيك ليمثل محورا لـ«عام رامبرانت»، حيث تم عرض 22 لوحة، من التي تعبر عن حياته الخاصة الى صور الأشخاص المكتملة الطول اللامعة، من لوحة العروس اليهودية الشهيرة الى لوحة دورية الليل الرائدة، بمعية 60 رسما و300 صورة، لم تتم مشاهدتها الا نادرا بسبب رقّتها.
هنا في أمستردام، نهض رامبرانت الى مرتبة الشهرة، وهنا توفي مفلسا ودفن في قبر بدون شاخص داخل إحدى الكنائس غربي المدينة. بيد أن إبن هولندا الأشهر ولد ونشأ وشرع بحياته المهنية في لايدن، التي تبعد اليوم نصف ساعة بالمترو عن العاصمة، لذا نزلت في فندق رامبرانت الصغير، لا علاقة للفنان به، وهو فندق رخيص وأنيق، لأبدأ جولتي في متابعة وقع أقدام الفنان داخل هذه البلدة الجذّابة المليئة بقنوات المياه والدراجات الهوائية.
بدأت في نزل «ويدستيج»، حيث ولد، ربما سنة 1606، كتاسع ولد من أصل عشرة، سبعة منهم بقوا على قيد الحياة. هدم المنزل، بشكل صادم، في سبعينيات القرن الماضي، لكن الشارع الضيّق لا يزال ينتهي بنهر الراين وطاحونة الرياح الرائعة ديبوت، المشابهة جدا لطاحونة ديريجن المملوكة لوالد رامبرانت التي كانت قائمة بالجوار فوق جدار البلدة، حاليا تحوي بعض المباني، تطحن شراب الشعير لصناعة الجعة.
ويصطف صف من الحانات والمقاهي والمطاعم عبر الممرات المائية، منتشرة عبر الأرصفة أمام المنازل المجملنة الشكل الواصلة الى الأزقة المرصوفة بالحصى. إنها بلدة تأريخية بقيت فتية بسبب طلبة أقدم الجامعات الهولندية، المتمركزة في نفس الدير القوطي الذي شغل المكان عندما قام والدا رامبرانت بتسجيله هنا سنة 1620 وهو بعمر 14 سنة. خلف المبنى، وجدت حديقة نباتية ظليلة شهدت زراعة أول زهور توليب في هولندا، وهي مناسبة يتم الاحتفال بها أثناء مهرجان الزهور الحية الذي يقام كل فصل ربيع.
أزقة تأريخية
«هذه هي شوارع طفولة رامبرانت» كما يقول دليلي “ماريك هوغديون”، مع دخولنا الى زقاق ضيّق تطلّعنا فيه الى واجهة المدرسة اللاتينية التي درس فيها رامبرانت من سن العاشرة. وحول الركن مباشرة، وجدنا كنيسة بيترسكيرك الضخمة بطرازها القوطي الرائع، حيث تزوّج والدا رامبرانت ودفنا، وعمّدا إبنهما. وعبر فناء جميل وزقاق صغير رائع، وصلنا الى الشارع الذي صار فيه رامبرانت فنانا. ولكونه دائما متمرّدا نوعا ما، رفض الذهاب الى الجامعة، ليتدرّب بدلا من ذلك في المنزل النموذجي الهولندي الذي دخلناه
الآن. وتم إفتتاح الطابق الأرضي من ذلك المنزل ك”ستوديو رامبرانت الشاب”، وبرغم عدم بقاء أي عمل لرامبرانت وهو طالب فن، تم افتتاح معرض حمل إسم «رامبرانت شابا»، في متحف لاكينهال للقرن السابع عشر خلال شهر تشرين الثاني الماضي، ركّز على فنه قبل انتقاله الى امستردام بعمر 25 سنة. آنذاك، وكما هو الحال الآن، كانت المدينة عاصمة هولندا المزدحمة والمتفاعلة والتجارية، مكان مناسب تماما لبروز فنان يتوقع له النجاح. قام التجار الأثرياء لشركة الهند الشرقية بتمويل الإزدهار الفني لـ «العصر الذهبي الهولندي» مما سمح لرامبرانت شراء منزل كبير على ضفة إحدى القنوات. داخل «متحف منزل رامبرانت»، وقفت في الستوديو الواسع الخشبي الأرضية حيث كان الفنان يرسم لوحاته لما يقارب عشرين عاما، لغاية ما خسر منزله بسبب الإفلاس. وتزدان جدران الغرف الامامية الأنيقة بلوحات معلّقة، كما كان هو الحال عندما كانت تمثل نافذة محل رامبرانت، أما أماكن معيشة العائلة فهي حيث رسم الفنان زوجته ساسكيا في فراش مرضها.
مواصلة العمل
عندما ماتت ساسكيا، كان رامبرانت منهمكا بالعمل في ما ستكون لوحته الأشهر، دورية الليل، التي كانت بتفويض من الحرس المدني لمدينة امستردام معلّقة في مقر الحرس وسط المدينة لغاية سنة 1715. تحوّل المقر الآن الى فندق دولين، الذي دخلته عبر بهو ناصع الألوان يقع تحت ثريا كروية ضخمة لأصل الى غرفتي المؤقتة.
وبعد تناول وجبة الفطور، شاهدت بقايا المبنى القديم، وهي الآن جزء من جناح رامبرانت، حيث يتم تعليق نسخة جزئية من دورية الليل كبديل للأصلية، وهي ليست بديلا للّوحة الأصلية، على كل حال. بعد ذلك، أجرينا جولة بالزورق في قنوات المدينة الشهيرة، عبرنا خلالها كنائس وأسواق امستردام ومبانيها وجسورها التي شهدها رامبرانت.
ويقع هناك رصيف ميناء مباشرة مقابل قصر للفن يعود للقرن التاسع عشر وهو متحف ريجيك، وفي الطابق الثاني منه تعلّق لوحة أصلية استثنائية. انها موقع مثالي لإنهاء جولتي، ليظهر رامبرانت مرة أخرى ليحدّق ثانية بي، فوجهه الجلي ينظر بحذر ومكر من وراء الحرس، في صورة تأخذ المشاهد الى فوضى الشخصيات الملوّنة، والنشاط المتحوّل والرمزية المخفية والأوجه البشرية الحقيقية. انها صورة لرامبرانت منفعل وطليعي المميزات، وتعبر بشكل مطلق عن امستردام.
صحيفة الغارديان البريطانية