وارد بدر السالم
«أعطت كوبابا الخبز للصياد وأعطته الماء، وجعلته يقدم السمك في معبد إيساجيلا للإله مردوخ، فأعجب صنيعها الإله وعهد إلى كوبابا، حارسة الحانة، بالسيادة على العالم بأسره».. نص بابلي قديم
(1)
اختراق المجتمعات الذكورية من قبل النساء أمرٌ فيه خطورة ومصاعب غير خافية. فمثل هذه المجتمعات التي تعتمد على الرجل أكثر مما تعتمد على المرأة تكون قاسية نسبياً. ولم يكن العالم القديم برمته سوى جدار ذكوري جلبه التاريخ لنا في شواهد كثيرة، وسوى ذلك يُعدّ استثناءً تحكمه ظروف قد تكون واضحة أو غامضة.
ولهذا فإن الملكة الكوتيّة كوبابا هي أيضاً استثناء من القاعدة الذكورية المتعارف عليها. إذ نقف أمام الأسطورة الغامضة في التاريخ النسائي الملوكي على وجه التحديد في بلاد الرافدين مع كو بابا التي تولّت عرش العراق الرافديني كملكة قوية لفترة 100 عام وانتصرت في معظم حروبها كما ذكرته المدونات السومرية. وقد يكون ذلك الزمن مبالغة شأن الأسطوريات التي المنتشرة بين الحضارات القديمة، لكنّ باحثاً عراقياً تاريخيا مدققاً في أحوال بلاد الرافدين بمختلف سلالاتها وهو بهنام ابو الصوف ذكر بأنها حكمت ثلاثين عاماً؛ وهو أقرب إلى الحقيقة منه إلى الأسطورة المتوارثة.
(2)
عرّفنا التاريخ بملكات وأميرات ومحاربات لهنّ شأن في السياسة والقتال والتجارة والأعمال الكبيرة في المجتمعات ومن عصور قديمة دينية وأسطورية متعددة : حتشبسوت/ كليوباترا/ ميريت / بلقيس/ نفرتيتي/ زنوبيا/ الكاهنة ديهيا وتاوسرت.. أسماء كثيرة في العالم القديم شغلت العصور بمنجزاتها ودُوّنَت آثارها على المسلات والأختام الأسطوانية والأحجار والطين، حتى تعاطينا تلك الآثار الملوكية كثيراً، واستفاضت الدراسات حولها، من دون أن ننتبه كثيراً إلى ملكات عراقيات وشخصيات نافذة في تركيبة المجتمعات السومرية، ملأن التاريخ القديم بالعطاء والقوة والحكمة والبناء والانتصارات الحربية، كالملكة الآشورية سمير أميس- شميرام/ زوجة الملك شمشي أدد الخامس، وسامو رامات الوصية على عرش الإمبراطورية الآشورية، ونقيعة زوجة الملك سنحاريب والكاهنة الأميرة الشاعرة أنخيدوانا، وشبعاد والعرّافة نوسكا، وأماه سيدة الأعمال الشهيرة، وليس آخرهن الملكة كوبابا التي اخترقت بلاد ما بين النهرين بأعجوبة لا تزال غامضة إلى حد كبير، وهي التي توصف بأنها كانت عاملة في حانة تبيع البيرة المقدسة إلى زبائنها.
(3)
ولكي يُزال التباس الزمن، تسجل لنا الوثائق السومرية بأن الملكة كو بابا حكمت في (2400 ق.م.) ولأن السجلات التاريخية عادةً هي ذكورية في معظمها، إلا أنها رسخت وجودها كملكة في البلاد السومرية، بعد أن كانت عاملة في حانة. مع أن الواقع السومري يحجّم كثيراً من دور المرأة السياسي، غير إنها أصبحت ملكة لسلالة كيش (السلالة الكوتية - 2500 ق.م.) وعُرفت تاريخياً وشعبياً بأنها هزمت الملك ماري شارومتر ملك مدينة ماري وضمّت مملكته إلى مملكتها. وبذلك تكون أولى النساء التي قادت حروباً في التاريخ القديم منتصرة، وأول ملكة محاربة عرفها التاريخ. وأعطي لها لقب (الإلهة الحورية الأم) بعد تأسيسها لسلالة كيش الرابعة. وبما أنها من سلالة كوتية فبالضرورة أن تكون كوردية كما يشير أكثر من باحث إلى ذلك.
أما كيف وصلت إلى العرش العراقي وهي العاملة في حانة للبيرة والنبيذ، ولم تكن من سلالة ملكية، فهذا يختلف الباحثون عليه كثيراً. والاختلاف فيه غموض ووثائق غير متكاملة، لاسيما وأنها كانت تدير حانة بيرة كوظيفة نسائية تشترك بها مع الرجال وهو من المألوف والمتعارف عليه في آنذاك.
لكن كيف قُدّر لصاحبة الحانة أو عاملتها أو خادمتها، أو المرأة الحارسة فيها أن تصبح ملكة مقدسة، لاسيما إذا عرفنا أن النظام الملوكي وراثي في بلاد ما بين النهرين؟
(4)
هنالك آراء ونظريات واحتمالات ليست حاسمة في شأنها وليست مُلزمة أيضاً. فهذا ما يكتنفه الغموض كثيراً، بالرغم من أنها تزوجت لاحقاً من الملك الكوتي هابلوم، لتأكيد أصولها الكوتية. ولم تذكر السجلات المتروكة بشأنها أية معلومة، تقضي بأن دمها ملكي، بل التأكيدات على أنها عاملة حانة، وهذا ينسف فكرة أنها من عائلة سامية. ومع أنها أضحت ملكة وانتصرت في حروبها ونشرت الرخاء في بلادها، إلا أنّ ثمة تفاصيل غامضة بخصوصها، وضعت الباحثين أمام ثلاثة احتمالات لتصوير تربعها على عرش العراق القديم:
(أ) بعض الباحثين يرون أن كوبابا ربما كانت متزوجة من ملك فارق الحياة ثم ورثت الحكم منه. وهذا احتمال ضعيف كثيراً لا نعتقد بأن هناك مؤيدين له، ولو كان الأمر هكذا لعُرف وذُكر اسم الملك في السجلات الرسمية.
(ب) تبوّأت المنصب الملكي بمساعدة بوزور وهذا احتمال لا يمكن الركون إليه ولن يكون بالضرورة صائباً، لاسيما وهي التي ضمت مملكة أكشاك إلى امبراطوريتها بعد حرب انتصرت فيها على ملكها. وسيبدو الأمر غير مقنع أن يتعاون بوزور معها، ويتنكر لهزيمة أكشاك العسكرية.
(ج) امتلاك حانة كان مهنة شائعة ومحترمة للإناث في بلاد ما بين النهرين. وهذا مرجّح جدا ، فقد كان الشعير مقدساً لدى الشعب السومريّ، كما كانت البيرة تُعد بحسب النصوص السومريّة “بهجة القلب ورضى الكبد” وهذا يعني بأنّ كوبابا لم تكن “عاملة” أو “خادمة” في الحانة، بل على الأرجح كانت من طبقة ارستقراطية وهي “مالكة الحانة” مما يقتضي أن تكون مقرّبة من الآلهة، بل كان الشعير الذي تصنع منه البيرة مقدسا وذا فوائد طبية، فحسابات الباحثة اللاهوتية الأميركية كارول فونتين انصبّت بهذا الاتجاه، كون الأمر حالة طبيعة في المجتمعات الرافدينية أن تكون الجعة والبيرة ضمن المشروبات اليومية للسومريين، بوصفهم أول من اخترع ذلك المشروب، كما تؤكد دراسات وبحوث متعددة عن هذا.
وقد نميل إلى هذا الرأي نسبياً بوصفه الأقرب إلى الاستنتاج والتحليل الموضوعي.
لكن هذه الاحتمالات كلها غير مؤكدة، بل هي ضرب من التخمين والتحليل وقراءة مما عُثر عليه من ألواح وسجلات رافدينية، ليست نهائية كما نعلم.