إدوارد سعيد وشرعيَّة حقِّ العودة للفلسطينيين

منصة 2024/02/27
...

 د. نادية هناوي

في كتابه (مسألة فلسطين)1 يكشف إدوارد سعيد حجم المؤامرة التي تحاك في دهاليز السياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة من أجل توسيع الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينيَّة، ويشرح الآليَّة التي بها تعمل الامبرياليَّة العالميَّة على مد الكيان اللقيط بكل أسباب القوة، مطوعة القرارات الدوليَّة ومزيفة الحقائق لصالحه.

ويشرح سعيد في القسم الرابع من الفصل الأول والمعنون (الحقوق الفلسطينيَّة)، كيف وفّرت أمريكا الستار الذي من ورائه مارس العدو الصهيوني جرائمه البشعة ضد الشعب العربي الفلسطيني فانتهك كل الشرائع والمواثيق الإنسانيَّة، يقول إدوارد سعيد وهو بصدد الحديث عن اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة:
(إن ما يقرب من ثلاثين عاماً من وجودهم بعيداً عن أراضيهم فضلاً عن حرمانهم من حق تقرير المصير، يثبت- وهي مفردة مؤسفة عندما يكون معناها الإنساني في هذا السياق على حقيقته- أن قدراً من الظلم وقع عليهم ولكن عندما يسأل المرء: من أو ما الذي جعلهم لاجئين؟، وعندما تطرح المسألة قانونيّاً فإنّه لا يُنظر إلى إسرائيل على أنّها معفوة من اللوم أو المسؤولية حسب - وفقاً للرئيس كارتر الذي أعفى الولايات المتحدة بالمثل من مسؤوليتها عن اللاجئين والدمار الذي لحق بالهند الصينية جراء العدوان الامريكي عليها- وإنما إسرائيل (مثل الولايات المتحدة) تحظى بالثناء على إنسانيتها.
يقال لنا: إنَّ الفلسطينيين استُبدلوا باليهود الذين غادروا الدول العربيَّة ليأتوا إلى إسرائيل بقوة الإلحاح، أما الفلسطينيون الذين بقوا ولم يغادروا فكانوا أفضل حالاً من إخوانهم في الدول العربيَّة المجاورة. إذ لا يوجد سوى ملاذ واحد لليهود وهناك اكثر من عشرين ملاذاً للعرب ولماذا لا يكون العرب مثل اليهود ويستقبلون لاجئيهم؟!. وأن احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية عام 1967 أنتج في الواقع وجوداً ثنائي القوميَّة عربي- يهودي. وأن احتلال الضفة الغربيَّة هو تحقيق لنبوءات الكتاب المقدّس. وأن ثمة فلسطين موجودة في شرق الأردن.. ولماذا لا يفهم الفلسطينيون هذا، أي أنّهم ببساطة مجرد بيدق سياسي أو كرة قدم تستخدمها الأنظمة العربيَّة ومن ثمَّ لا يشكلون مشكلة حقيقيَّة بمجرد أن ترى تلك الأنظمة أنّها لا تستطيع الإفلات من مثل هذه التكتيكات إلى أجل غير مسمى. كل هذا بالطبع يدور حول هذه القضية ويبدو أنها تحولت إلى دليل قوي على أخلاق الصهيونيَّة ومعايير سلوكها!!.

الحقوق الفلسطينية
ولكن هنا، كما هو الحال مع معظم المسائل الأخرى في قضية فلسطين، نحتاج إلى ربط الأشياء بعضها ببعض، ورؤيتها كما هي، لا كما هي خافية فيتم تجاهلها أو رفضها (لا يوجد دليل أستشهد به هنا وفي أي مكان آخر غامض أو غير غامض فمعظمه يمكن العثور عليه في الملفات المتاحة بسهولة). إنَّ السياق المناسب في التعامل مع مشكلة اللاجئين جاهز وفي متناول اليد: هل يريد اللاجئون الفلسطينيون العودة إلى وطنهم، أو تعويضهم، أو إعادة توطينهم في مكان آخر؟ ثانياً: أهناك إجماع دولي وأخلاقي على الإجابات النظريَّة والعمليَّة عن هذه الأسئلة؟، ثالثاً: ما هي الآليَّة الموجودة في إسرائيل لتحويل اليهود الأوروبيين والأمريكيين إلى مهاجرين، ثم مواطنين، وكيف تمنع هذه الآليَّة اللاجئين الفلسطينيين العرب من الاستفادة منها بأنفسهم؟، إنّ الإجابات عن كل هذه الأسئلة أخلاقية بالطبع، لكنها مثيرة للجدل ومهمة بسبب واقعها السياسي. بعبارة أخرى، هذه ليست أسئلة أكاديميَّة، بل إنها أسئلة تؤثر بشكل مباشر في حياة الملايين من البشر وعلى الدول والنظام الدولي.
دعونا نراجع هذه الأسئلة بتجرد ونزاهة.. قبل عام 1948، كانت غالبية الأراضي التي تسمى فلسطين مأهولة بلا أدنى شك بأغلبية من العرب، وهم بعد قيام إسرائيل إما تفرقوا (غادروا أو أجبروا على المغادرة) أو اندمجوا داخل الدولة باعتبارهم غير عرب. أقلية يهودية. وبعد عام 1967، احتلت إسرائيل المزيد من الأراضي العربية الفلسطينية. ونتيجة لذلك، صارت هناك في الوقت الحاضر ثلاثة أنواع من الفلسطينيين العرب: أولئك الذين يعيشون داخل إسرائيل ما قبل عام 1967، وأولئك الذين يعيشون داخل الأراضي المحتلة، وأولئك الذين يعيشون في أماكن أخرى خارج فلسطين المحتلة. لم يجر قط استفتاء الفلسطينيين بشأن رغباتهم: وهناك سبب واضح لذلك وهو الحقيقة المجردة المتمثلة في وجودهم المعقد والمشتت إلى حد كبير، في ظل عدة ولايات قضائيَّة؛ ومعها يستحيل سياسياً إجراء مثل هذا الاستفتاء، خاصة في البلدان التي لا تجرى تحت رعايتها انتخابات بأيِّ حال من الأحوال. ويمكن توسيع قائمة الأسباب، وكلها تزيد الصعوبة التي لا يمكن التغلب عليها في الوقت الحاضر لإجراء مثل هذا الاستفتاء. ومع ذلك، فإنَّ هذا لا يعني أنّه لا توجد وسيلة أخرى يمكن للفلسطينيين من خلالها، حتى في تشتتهم ومنافيهم، أن يعبروا عن أنفسهم، إذا ما حكمنا من خلال النداء الوطني الكبير وشرعية منظمة التحرير الفلسطينية، ومن خلال المقاومة المستمرة ورفض الحكم العسكري الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، ومن خلال المظاهرات اليومية والإضرابات والمقاومة السياسية لعرب الداخل الإسرائيلي في ما قبل عام 1967، ومن خلال كل منظمة جماهيرية خاصة أنشأها الفلسطينيون من أجل قضيتهم. هناك أدلة كثيرة تثبت أن الشعب الفلسطيني، إذا أخذناه كأعضاء في مجتمع له تجربته المشتركة في الاحتلال والنفي وغياب أي وطن إقليمي، لم يرض بنصيبه الحالي، بل لقد أصرَّ الفلسطينيون مراراً وتكراراً على حقهم في العودة، ورغبتهم في ممارسة تقرير المصير، ومعارضتهم العنيدة للصهيونية بالشكل الذي مارسته تجاههم.
إنَّ هذا الإصرار الفلسطيني ليس انحرافاً فريداً خارج السياق؛ بل هو مدعوم بالكامل من قبل كل ميثاق قانوني وأخلاقي دولي معروف في العالم الحديث. فالمادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) تنص على ما يلي:
1. لكل فرد الحق في حرية التنقل والإقامة داخل حدود أي دولة.
2. لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إلى بلده.
ويؤكد الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) كذلك على هذه الحقوق الأساسية للبشر، وقد تم قبوله منذ عام 1976 كوثيقة تحمل قوة فريدة للتصويت بالإجماع في الجمعية العامة للأمم المتحدة (مع امتناع خمسة أعضاء فقط عن التصويت). وتنص المادة 12 منه على ما يلي:
. لكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده.
. لا يجوز حرمان أحد تعسفاً من حق الدخول إلى بلده.
وفضلا عن ذلك، تؤكد لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على ما يلي:
أ. يحق لكل شخص، من دون أي تمييز من أي نوع، مثل العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غير السياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الملكية أو المولد أو الزواج أو أي وضع آخر، العودة إلى بلده.
ب. لا يجوز حرمان أحد من جنسيته تعسفاً أو إجباره على التنازل عنها كوسيلة لحرمانه من حق العودة إلى وطنه.
ج. لا يجوز حرمان أحد تعسفاً من حق الدخول إلى بلده.
د . لا يجوز حرمان أي شخص من حق العودة إلى وطنه بدعوى أنه لا يحمل جواز سفر أو وثيقة سفر أخرى.
معظم الحجج بالنسبة للفلسطينيين في الأقل، ركزت على مجموعة تحديدات معينة. ويقال لنا إنه إذا غادر الفلسطينيون عام 1948، فإنهم فعلوا ذلك لأن الدول العربية حثتهم على القيام بذلك حتى يتمكنوا من العودة منتصرين. بتجربتي الخاصة فإن جميع الأدلة تشير إلى أن السبب الحاسم في النزوح العربي الفلسطيني عام 1948 كان مختلفاً. ولكن في ما يتعلق بالحجة الحقيقية حول حق الفلسطينيين في العودة، لا يكون لمغادرة الفلسطينيين في النهاية أهمية بقدر أهمية أن يحق لهم العودة، كما ينص القانون الدولي وكما تنص العديد من قرارات الأمم المتحدة (التي صوتت عليها الولايات المتحدة) وكما أرادوا هم أنفسهم. (تم إقرار أول قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة - رقم 94 - يؤكد حق الفلسطينيين في العودة إلى منازلهم وممتلكاتهم، في الأول من كانون الأول (ديسمبر) من عام 1948. وقد تمت إعادة تمريره ما لا يقل عن ثماني وعشرين مرة منذ ذلك التاريخ الأول) حيث الحق الأخلاقي والسياسي للشخص في العودة الى مكان اقامته معترف به في كل مكان.
وقد ألغت إسرائيل إمكانية العودة، أولاً من خلال سلسلة من القوانين التي تعلن أن الأراضي المملوكة للعرب في فلسطين هي أملاك غائبين، ومن ثم هي عرضة للمصادرة من قبل الصندوق القومي اليهودي الذي يملك الأرض لكل اليهود (وهي صيغة لا مثيل لها في أي دولة أو شبه دولة أخرى)، وثانياً بقانون العودة، الذي بموجبه يحق لأي يهودي ولد في أي مكان المطالبة بالجنسية الإسرائيلية والإقامة الفورية ولكن لا يستطيع أي عربي ان يطالب بذلك حتى لو كان المكان هو محل إقامته وعائلته لعدة أجيال في فلسطين.
هاتان الصيغتان الاقصائيتان تجعلان من المستحيل، لأي سبب كان، عودة العربي الفلسطيني بشكل منهجي وقانوني، أو تعويضه عن ممتلكاته، أو العيش في إسرائيل كمواطن مساوٍ أمام القانون مع اليهودي الإسرائيلي.
وهناك حجة أخرى مفادها أنه إذا سُمح لهذا العدد الكبير من الفلسطينيين بالعودة وهم معادون أساساً لإسرائيل، فإن ما سيحدث لها سيكون في الواقع انتحاراً سياسياً. فضلاً عن ذلك فإن إسرائيل دولة لليهود، ولا بد أن يُتاح لهم دائماً الخيار المفتوح بلا حدود والمتمثل في "العودة" بمرونة إلى صهيون. تتمتع هاتان الحجتان بالقناعة وشدة العاطفة. ومن غير المجدي أن ينكرها عربي فلسطيني، كما أنه من غير المجدي أن نتصور أن اليهود الإسرائيليين من المرجح أن يرغبوا في العودة إلى أماكنهم الأصلية. إن الكثير من اليأس والتشاؤم الذي يشعر به المرء تجاه الصراع الفلسطيني الصهيوني برمته يتمثل في فشل كل جانب في حساب قوة وجود شعب آخر له أرض وتاريخ مؤسف من المعاناة والأسوأ من ذلك، التظاهر بأن الآخر مع مرور الوقت والجهد والعقوبات التعسفية هو مصدر إزعاج من وقت لآخر.
أخيراً سوف اذهب بعيداً الى حقيقة أن الفلسطينيين والإسرائيليين أصبحوا الآن متورطين بشكل كامل في حياة بعضهم بعضا ومصائرهم السياسية، ربما ليس بأي شكل من الاشكال في نهاية المطاف وهو موضوع بالتأكيد الآن وفي المستقبل المنظور، لا يمكن وضعه بسهولة بين قوسين في مناقشة عقلانية. ومع ذلك، يجب على المرء أن يكون قادراً على ذلك التمييز بين الوجود السياسي الغازي والسلب والتهجير ونهب الملكية وبين وجود الآخر الذي يريد الازاحة، فالاثنان ليسا متساويين، وفي النهاية لن ينتصر أحدهما على الآخر ويهيمن عليه بشكل نهائي.
إن قيام الصهيونية بإدامة نظام سياسي وقضائي ومعرفي هدفه الفوري والمتجدد باستمرار وحتى على المدى الطويل هو إبقاء فلسطين والفلسطينيين خارجاً، هو من ثم أمر يجب معارضته واخضاعه لتحليل جاد حول معنى هذه المعارضة وشكلها.
وبسبب الظروف السياسية والمعرفية التي وصفتُها، فإن معارضة أي شيء يتعلق بإسرائيل والصهيونية يبدو وكأنه دعوة لمعاداة السامية في الأقل، والإبادة الجماعية في الأكثر. وبطبيعة الحال، فإن استخلاص مثل هذه الاستنتاجات مما آمل أن أظهره كبرنامج معارضة مبدئي ومنفصل، هو عمل مؤذ ومدمر؛ ولكنه يتم القيام به على أية حال، وسيستمر القيام به، للأسف، لسنوات مقبلة. ومع ذلك، فإن الهدف الأساس من المناقشة العقلانية، والذي أؤمن به بشدة، هو محاولة تغيير المصطلحات ووجهات النظر التي يتم من خلالها فهم المشكلات التي تبدو غير قابلة للحل - ويشكل الإسرائيليون والفلسطينيون معاً مثل هذه المشكلة، ويتطلب منهم أيضاً مثل هذا التغيير العقلاني.
كانت الفرصة المثالية للتغيير متاحة عندما أصدر الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة إعلانهما المشترك في الأول من أكتوبر عام 1977. والأمر اللافت في الإعلان هو أنه تحدث عن الحقوق الفلسطينية (وليس مجرد المصالح) كأشياء يجب أن تكون مناقشتها في أية تسوية سلمية نهائية لمشكلة الشرق الأوسط. وكانت جوقة الإساءة والهستيريا التي استقبل بها هذا الإعلان من الرأي اليهودي المنظم محبطة للهمم. ولم يكن رد الفعل اليهودي الأميركي المحلي مسيئاً فحسب، بل كان كذلك بكل فخر، حيث تفاخر الزعماء اليهود بأنهم أغرقوا البيت الأبيض بآلاف الرسائل والمكالمات الهاتفيَّة. كان الدرس المقصود هو أن أي تهديد محتمل لإسرائيل (وأي انحراف متصور عن الخط المتوقع للحكومة الأمريكية المتمثل في القبول غير المشروط بكل ما تفعله إسرائيل) من شأنه أن يحشد كل يهودي وكل مؤيد إسرائيلي ضد الإدارة. إن معنى هذا الترهيب هو إبقاء سياسة الشرق الأوسط أمرا داخليا، وليس مجرد قضية من قضايا السياسة الخارجية. لكن المعنى الآخر هو أنه من السهل تعبئة الناس على أساس الخوف.
ومع ذلك يتساءل المرء عما إذا كان الخوف، والقمع، والإرهاب الفكري الصريح له ما يبرره أو ما إذا كان ذلك يخدم وجهة نظر قصيرة أو مصلحة ما إلى حد لا يصدق في نهاية المطاف.
هل البدائل الوحيدة لمناقشة الوضع الفلسطيني هي التهديد بما يرقى إلى مستوى حرب أهلية بين الجالية اليهودية الأمريكية والإدارة، وما تم وصفه في الصحافة بشكل متكرر من قبل المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين على أنه حرب إبادة محتملة تشنها إسرائيل
ضد الفلسطينيين العرب؟ (انظر على سبيل المثال، جيم هوغلاند في صحيفة واشنطن بوست، 26 أكتوبر 1977.) ما الشيء المخيف الذي يثير ردود فعل عنيفة الى هذا الحد، والأمر الأكثر أهمية من ذلك، هل يمكن جعل هذا المخيف ينتهي إما عن طريق التهديد بالحرب أو بالحرب نفسها؟!

...........................................
1 - هذه المقالة والمقالات السابقة والمتعلقة بالموضوع نفسه هي ترجمة بالتصرف من كتاب (مسألة فلسطين The question of Palestine) 1980) لإدوارد سعيد والذي لم ينقل الى اللغة العربية حتى الآن.