عن فوزي كريم وغارسيا ماركيز

ثقافة 2019/05/25
...

عبدالزهرة زكي
 
 
فوزي كريم، على دراجة لا تريد الوصول
المرة الأولى التي شاهدت فيها فوزي كريم كانت ببغداد السبعينيات؛ كان فوزي فيها على دراجة هوائية، وبدت لي الدراجة كما لو أنها تمضي بلا هدف معين تسعى إليه، حتى خلت أنْ ليس لها من بلوغ.
لقد بدت الدراجة بالنسبة لي جسماً يتحرك منطلقاً سارحاً، وكان فوزي على الدراجة ولم يكن عليها، كان في مكان آخر سارحاً هو فيه بعيداً عن الشارع الذي كان فيه، وعن ناس الشارع وعن الدراجة التي كان عليها وما كان عليها. كانت دراجة تمضي فقط من أجل أن تظلّ تمضي فلا تتوقف.
بعد حين انعطفت الدراجة بفوزي كريم، أو هو فوزي كريم الذي انعطف بالدراجة في زقاق ضيق وتواريا في ظلام الزقاق حتى ما عدت أرى فوزي كريم ولا دراجته الهوائية.
لقد اختفيا عن ناظريَّ في ذلك الحين الذي دلفا فيه إلى زقاق فيما بقيا حاضرين متحركين في خيالي الذي مضى بهما، بفوزي ودراجته، على طرق لا تُرى.
لم أعد أعرف لحظتها ما إذا كان خيالي هو ما بقي معهما، أم هما اللذان بقيا مع خيالي الذي ظل يواصل متابعة فوزي كريم المنطلق بدراجته الهوائية، أو دراجةَ فوزي المنطلقة به.
كانت الدراجة، بموجب الخيال، تغادر الزقاق إلى زقاق آخر، ومن هذا الأخير تنطلق في شارع لم أعرفه من قبل، ثم تنتهي منه إلى ساحة رحبة، فشارع آخر أرحب.
كان فوزي كريم على الدراجة، بموجب الخيال أيضاً، وكان يريد أن يأخذ إلى صدره بالكثير من الهواء، كان رأسه مرفوعاً، وكانت عيناه تتطلعان في نقطة لا تريانها، في أفق ظلت الدراجة تسعى إليه وظل الأفق ينأى كما لو كان سراباً، وما كان بسراب.
لم يكن من أفق لفوزي نفسه.
كانت الدراجة تنطلق بسرعة ظلت تتزايد، وكان فوزي مع كل انطلاقةٍ أشد سرعةً يرتفع بصدره أكثر ليستنشق هواءً أعمق. إنه يشقَّ الهواء فيما هو منطلق فيه، وكان الهواء يكاد يحمل الدراجة ويرتفع بها عن الأرض حتى يرتفع بها فعلاً، فتمضي الدراجة، ويمضي عليها فوزي كريم طائرَين محلقين بعناقٍ لا يريد أن ينتهي، فيحطّا على أرض أخرى، في مدن أخرى وما بين بحار وبوادي وشعاب مرجانية وغابات وقرى، فلا ينتهي طيرانهما الذي لا يسعى بهما نحو أفق بعينه.
ومنذ ذاك وحتى قبل يوم أو يومين أو ثلاثة كانت الدراجة الهوائية تمضي بفوزي، أو يمضي بها فوزي.. كانا أخف من الهواء وأبعد من أي أفق تراءى لهما.
أنهما وراء أفق ظلَّ فوزي كريم منطلقاً باتجاهه ولا يريد بلوغه. لكن أفق الموت هو ما يقصدنا، فلا ندرك في أيِّ ساعة يبلغنا فيما نحن مَن نسعى إليه ولا نريد بلوغه، إنها ساعةٌ نكون فيها في كنف ذلك الأفق، أو وراءه.
ليسترح فوزي كريم من طول ذلك العناء الجميل، عناء الحياة على دراجة لا تسعى إلى هدف.
 
{فضيحة القرن} كتاب ماركيز الجديد
في أكثر الأحيان يكفّ الأديب تدريجياً عن مهنة الأدب ويتحوّل تماماً بعد حين  ليكون صحفياً وذلك في معظم الحالات التي يحترف فيها أديب شاب مهنة الصحافة، لكن ليس من قانون ثابت في هذا.
وبخلاف هذا فإن ماركيز خرج على هذا التقليد؛ لقد ابتدأ صحفياً وانتهى به الحال إلى أن يكون أحد أعظم كتّاب الرواية في القرن العشرين، وربما في القرون كلها، إنه أحد أبرز مغيّري ليس الرواية وحدها فحسب، بل الأدب كله.
مع هذا المجد الأدبي النادر فإن ماركيز لم ينظر بدونية إلى مهنته الصحفية، لم يعبّر مرة عن أن عمله الصحفي وكتاباته في الصحافة كانت أقل قيمة من منجزه الإبداعي الأدبي. لقد قال في إحدى المناسبات عن طبيعة كتابته الصحفية إنه كان يكتب المادة الصحفية” “بنفس الضمير، والفرح نفسه، وغالباً ما يكون نفس الإلهام الذي كنت سأكتب به تحفة فنية”.
لم يحتقر ماركيز عمله الصحفي مرة، بالعكس من هذا فقد تمنى يوماً:” لا أريد أن أذكَر من خلال مئة عام من العزلة ولا من خلال نوبل، إنما من خلال الصحافة”.
وفي غضون الأسبوع الماضي فإن كبريات الصحف في العالم ظلت تستعيد هذا القول، وكانت مناسبة استعادة القول هي صدور كتاب (فضيحة القرن) لماركيز الذي ضمّ خمسين مقالاً وعموداً صحفياً جرى انتقاؤها من بين ما كتبه خلال السنوات ما بين 1950 و1984، وهي مواد ترسّخ انطباعاً عن أن ماركيز، المشاكس والساخر والمثير للجدل والماضي بالكتابة نحو آفاق غير متخيلة أو متوقعة، كان قد انطلق بكل هذا من عمله الصحفي. تقول نيويورك تايمز بمقال كتبه دوايت غارنر:” تثبت المقالات والأعمدة في (فضيحة القرن) أن صوته المباشر الساخر بخفة بدا وكأنه منطلق من هناك، منذ البداية.. إنه من بين هؤلاء الكتاب الخياليين النادرين الذين يستحق عملهم الإضافي العثور عليه دائماً”.
و(فضيحة القرن) هو واحد من كتابين أطلقا الأسبوع الماضي، وكان ثانيهما معنياً بحياة ماركيز، بعنوان (العزلة والشراكة)، وهو من تحرير سيلفانا باتيرنوسترو.
الكتابان كانا فرصة لعدد من كتّاب العالم لإزجاء التحية لصاحب الواقعية السحرية، لقد كتب سلمان رشدي يقول:” لطالما كان غارسيا ماركيز يفكر في نفسه كصحفي أولاً وقبل كل شيء، وهذه المجموعة الرائعة تقطع شوطًاً طويلاً نحو تبرير هذا الاعتقاد. أو، في الأقل، فإنها تضع صحافته على نفس مستوى رواياته”، فيما كتب سيمور هيرش:” الخبر السار هو أن هذه المجموعة هي فئة رئيسية عن كيفية الكتابة في إحدى الصحف: أعمدة خصبة ونابضة بالحياة مليئة بالمعلومات، والسخرية، والنزاهة، والفكاهة، والشكوك، والروم ، هذا ما يتوقعه المرء من ماركيز. 
الأخبار السيئة هي أن عبقريته ليست موجودة لتخبرنا بما نحتاج إلى معرفته عن دونالد ترامب”.