أبجديَّة اللّون في تشكيل الطفولة

ثقافة 2024/02/29
...

 رندة حلوم  

"الكوميك" أو الرّسوم التّوضيحيّة، هو فن ملازم لكتب ومجلّات الأطفال منذ عقود طويلة من الزّمن، وهو لغة عالميّة عالية النّغم متسقة الإيقاع واضحة الخط الجمالي، إذ برع فيه الكثيرون من الأوائل والمحدثين  العالمين أمثال "هيرجيه" صاحب شخصيّة 'تان تان " و "بيور" رسام السنافر، و"والت ديزني" صاحب شخصيّة ميكي وعالم ديزني، و أوديرزو" رسام شخصيتي "أستريكس وأوبلكس" وغيرهم، وفي العالم العربي ممتاز البحرة صاحب شخصية أسامة الشهيرة، ورسوم باسم ورباب في كتب المرحلة الابتدائية من ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولجينة الأصيل، وسرور علواني، ونزير نبعة، وأمجد الغازي، وقحطان الطلاع، وفيصل عبيد، ومصطفى رحمة، وحسن حاكم، ونجيب فرح، وأحمد الخطيب، وأنور اللّامي وغيرهم.  
وقد أفردت لهذا الفن المعارض والنّدوات والأمسيات غاية في النقاش والحوار والتّطوير، ورشح عنه فنانو الرّسوم المتحركة وأفلام الخيال والتّرفيه للأطفال، وصار مدرسة لتخريج أهمّ فناني الأطفال ومبدعيهم.
إنّ التعامل مع لوحات الأطفال لغاية الآن يشبه التّطريز بإزميل من الماس على صخرة طيّعة قابلة للتّشكيل، فيكوّن الفنان مع كلّ ضربة لوحة تفتح شبابيك الفكر والإدراك باتجاه المشاعر الدّاخلية والسّلوك الخارجي، كما يفتح باباً على الخيال والإدراك الحرّ مرّة والموجه مرّة أخرى، لأنّ الفن الموجه للأطفال خاضع لقوالب المجتمع وتوجهاته الاجتماعية والسياسية.
ولا عجب أنّه من المفروض أن يكون فنانو الأطفال الحقيقيون مثقفون بالفطرة، وأثرياء بالتّراكم الحياتي والمعرفي للتجارب، لأنّ المطلوب منهم أن يفهموا النّص المقدّم إليهم كي يحوّلوه إلى لوحات وخطوط وألوان ترتقي بذائقة الطفل نحو الفهم والتكامل، حتى أصبح هذا الفن في الآونة الأخيرة لغة الخطاب الأولى في التوجه إلى الطّفل في العالم، وطريقة في صناعة الخيال وتحريض التخيل المفضي إلى إرادة الحلم "كل أحلامنا يمكن أن تتحقق إذا ما امتلكنا الشجاعة لمطاردتها" كما يقول الفنان والت ديزني.
 أطلقت على فن "الكوميك " تسمية "الفن التاسع"، فهناك الكثير من التّجارب الحديثة في الوطن العربي كان لها الحضور الماتع والانتشار، من هذه التجارب الناجحة تجربة الفنان التشكيلي رامز حاج حسين في فن لوحات الطّفل، حيث كان أسلوبه انموذجا للخطاب المبسط والمقنع، حيث أتقن فن تبسيط الحكاية بالكلمة واللّون معاً، وحركة الصورة والإيحاء المباشر وغير المباشر، لذلك أتت لوحاته من فهم عميق لخلد الطّفل ونفسيّته وتقبّله لنمط الرّسوم والألوان.
لقد أبدع الفنان في خلق وتكوين شخصيّات أحبّها أطفال الوطن العربي، منّها وأهمّها شخصيته المشهورة والمميزة "أبو حمدو" بطلة مجلة الطفل العربي "مجلة أسامة" منذ الواحد من نيسان عام 1997، إذ كانت ومازالت من أحبّ الشّخصيّات الكرتونيّة لقلوب أجيال متعاقبة من الأطفال، تربّت على دعابة وحكمة "أبوحمدو" الزّاخرة بالثّقافة والألوان والابتسام.
اختار الفنان لشخصيته زيّاً ريفيّاً تراثيّاً عربيّاً مميزاً كما اختار لها تسميتها الشّعبيّة الملتصقة بالرّيف السّوري والشّامي، وكذلك فعل مع صنو أبي حمدو ورفيقه في رحلة المغامرات "عجاج"، أمّا عن البيئة فقد اختار لهما قرية اسمها "تلّ الرّمان"، واستقاها حسين من بيئته المحيطة، وهي تلّة مشهورة بالزيتون والرّمان والعنب قرب مدينته الأم سراقب، بهذه التفاصيل والمنمنمات الدّقيقة نسج الفنان حكايات "أبي حمدو" ومغامراته ومشاكساته بكل أناة وصبر ومرح، ليطالعنا في كلّ تشكيل على مغامرة ماتعة جديدة تستقطب حواس ومدارك الطّفل العربي.
لقد أغدق الفنان من الطقس الاحتفالي بالألوان والمعاني على شخصياته كلّها، فهو الذي نشأ وعاش طفولته على حكايات الجدات وهن يطرّزن أثواب الحرير "القندورة" في ليالي الشتاء وهو يتأمل دقة الحرفة الفطرية في رصف الأشكال الهندسية النّاعمة والدّقيقة لتشكّل تطريزات الثوب الفاخر الشّعبي، أمّا عن اكاديميته الأولى فهي الطّبيعة ومواسم الخضرة والأزهار.
تعلّم الفنان من بيئته البكر أبجدية اللّون وتشكيل التّراث، الذي عزز لديه القدرة على  فهم التّناسق اللّوني بين الأرض والتّراب والسّماء، وتناسق قطعان الغيم جعله كراعٍ ماهر يتفنن في تشكيلها بخياله ألاف القصص والحكايات واللّوحات.
نجح الفنان بشخصياته ورسوم "الكوميك" كاسلوب لمحاكاة لرسومات الأطفال البسيطة والمعبرة، فيكفي أن يغير بحركة الحاجب والفم في وجه ما، ليعطي انطباع بتعبير معين، وهذا الأسلوب برع فيه فنانو "الكوميك" الأوائل كالرسام "أوديرزو" الذي ظهر جليّاً تأثر الفنان حسين به، وبشخصيتيه المشهورتين "أستريكس وأوبلكس" كما تأثرت رسوم حسين  بالفنان البلجيكي المشهور "هيرجيه" مبدع شخصية "تان تان" ويمكن أن نلاحظ هذا من البومات مجلة "تان تان" في مكتبه وهو يحاور ويستدل منهما على النمطية الرائدة في فن التحوير والتبسيط.
وهو ما يجب أن يتبعه المهتمون والفنانون الجدد والمعلمون في هذه المدرسة الفنية من قواعد صحية وأساسية في اتقان فن اللوحة التشكيليّة بشكل سوي وأكاديمي متقن قبل أن يتطرقوا لمراحل الاختزال والتحوير، كي لا يرشح لنا هذا التشوه المؤلم الذي نجده في كتب وقصص ومجلات أطفالنا.