العود.. آلةُ السحْر والتأريخ والروح العراقيَّة

ريبورتاج 2024/03/03
...

   رحيم رزاق الجبوري

يعد العراقيون القدماء من أوائل الشعوب التي اعتبرت الموسيقى جزءا من طقوس عباداتها. ومن خلال الدراسة المقارنة لمجموعة من آثار العود التي اكتشفت في المواقع الأثرية المختلفة؛ أثبتت أن أول ظهور لهذه الآلة كان في بلاد ما بين النهرين و(الجزيرة السورية) وذلك في العصر الأكدي. ويمتاز العود الأول بصغر صندوقه وطول رقبته، حيث أصبح الآلة المفضلة لدى الناس في العصر البابلي، واستمر بشكله الكمثري الصغير الحجم حتى العصور المتأخرة وكان في البداية خاليا من المفاتيح وبدأ بوتر واحد ثم بوترين وثلاثة وأربعة، حتىأضيفت إليه عدة تعديلات من قبل مبدعين وبارعين عملوا على سبر أغواره الساحرة.

أهم الآلات وأعرقها

إلى ذلك يقول سيف العربي (صانع آلة عود، وطالب في بيت العود العربي ببغداد): "تعد آلة العود من أهم الآلات الموسيقية الأساسية في مجال الموسيقى. ووجدت في الحضارات القديمة وخصوصا في الحضارة الأكدية تقريبا (2350 ق.م)، وكانت تستخدم في المعابد ضمن الطقوس الدينية ترافقها آلتا الدف والناي. واستمر وجودها حتى نهاية سقوط بغداد على يد المغول. ويعد زرياب الموصلي (من أشهر العازفين والملحنين في العصر العباسي) الذي وضع لنا طريقة العزف من خلال ما يسمى بـ"الريشة" حيث كان العزف قبل ذلك مقتصرا على أصابع اليد فقط، كما اخترع الوتر الخامس لأنه كان عبقريا في الفن". 


مواصفات وحرفية عالية

ويضيف: "تتمتع هذه الآلة بمواصفات فنية مميزة من حيث طريقة العزف والصوت الجميل والشكل الهندسي الملائم. وتمتاز بحرفية صناعتها العالية. بسبب خضوعها لمقاسات علمية وضعوها سابقا علماء مثل الكندي والفارابي. إذ وجدت هذه المقاسات في مخطوطات كثيرة. أما في عصرنا وبفضل أساتذة كبار على مستوى الوطن العربي مثل الشريف محي الدين حيدر مؤسس المدرسة الموسيقية العراقية، وروحي الخماش، وجميل بشير، ومنير بشير، وسلمان شكر، وعلي الأمام، وسالم عبد الكريم، ونصير شمة، وخالد محمد علي وآخرين. حيث وضع هؤلاء أساليب عزف وتقنيات متطورة ورصينة وطوروها من حيث القياس والشكل وعدد الأوتار، إلى حد 8 أوتار على يد الموسيقار د. نصير شمة". 


كائنٌ حي

ويختم: "يعتبر العود كائنا حيا. لأنه مصنوع من مادة طبيعية وهي الخشب الطبيعي الذي تكون ذراته متغيرة وتتأثر بالظروف البيئية المحيطة من رطوبة وحرارة. وهذا ينعكس بشكل مباشر على جودة الصوت الذي يخرج منه. وتوجد للعود مدارس موسيقية وأساليب عزف وصناعة وشكل وصوت ومقاسات في العديد من البلدان الشرقية؛ كالمصرية والسورية والتركية. لكن أفضل أنواعه هو العود العراقي المعروف بجودته وصياغته".


هوية الشرق

يعدّها هوية الشرق التي بدأت من تأريخ أول معبد بابلي. وكل الحضارات التي ظهرت في بلاد ما بين النهرين كانت تستخدمها كآلة أولى. وينوّه حسام السلطاني (عازف عود) بأنها: "ظلت قرابة مئات السنين حصرا بمعابدها. وكان ملوك تلك العصور لديهم عازفون لهذا المعبد ومن خلال العزف يتأملون ويتخذون القرارات والقوانين بعد سماعهم عزف العود لبعض من الوقت. وهذا يعطي انطباعا للمكانة التي كانت فيها، التي أصبحت جزءا من ثقافة هذه الشعوب التي عاشت في عصور الحضارات التي نشأت ما بين النهرين. كما أن هذه الآلة رافقت الشعراء والملحنين والمؤلفين والمغنين والعلماء ومنهم الكندي والفارابي والأرموي وابن سينا الذين ظهروا في العصر العباسي. وكلهم كانوا عازفين لها واستخدموها لتقديم شروحاتهم ونظرياتهم الموسيقية. ويعتبر الفارابي المعلم الثاني بعد أرسطو في الفلسفة، الذي قدم سبعة علوم، واحدة منها علم الموسيقى. وهذا يعطينا مؤشرا مهما لهذه الآلة". 


عبقري الموسيقى

ويضيف: "ظل العود طوال هذه القرون آلة واضحة وهوية شرقية. فهو ليس فقط آلة موسيقية نتعلمها، لأن تأريخها وتأثيرها ممتد جدا على كل الآلات التي ظهرت. إذ ارتبط حضوره أيضا في المجالس الدينية والاجتماعية والثقافية فلم يعد وسيلة للطرب فقط، بل للتأمل الروحي والنفسي والإبداعي. وقد تأسست مدارس موسيقية على يد العديد من عازفي العود منهم زرياب كبير المغنين في بلاد الأندلس الذي كان له دور محوري مهم في تطوير الموسيقى الغربية. ويعتبر من أهم الفنانين الذي غير العود حيث كان يتألف من ثلاثة أوتار فقط، وكان وجهه يُصنع من جلود الحيوانات فغيره واستبدله بالخشب، وأضاف الوتر الرابع إليه وعند سفره إلى الأندلس زاده وترا خامسا؛ الذي أضفى جمالا آخر للعزف عليه. واستقر على هذه الأوتار الخمسة لفترات طويلة بعد زرياب". 


الوتر السادس

ويكمل: "وجاء الموسيقار والمؤلف والملحن العراقي فريد البابلي (ألفريد جورج) وأضاف الوتر السادس له. بدرجة (فا) والذي أعطى أبعادا جديدة له في درجات الجَوابات، وبهذا جعل القطع والمؤلفات الموسيقية وحدة فنية متكاملة وهذا الأسلوب لم يتطرق له أحد مما جعله رائدا في مجال تطور العود والعزف عليه. وكان للشريف محيي الدين حيدر الفضل في تأسيس المعهد الرسمي الموسيقي في العراق -بغداد تحديدا- وتولى بنفسه تدريس العود وأخذ على عاتقه تدريس من مجموعة بارزة من أساتذة العراق والوطن العربي أمثال علي الدرويش وجميل بشير وسركيس أورشو وسلمان شكر ومنير بشير وغانم حداد". 


صانعو العود

ويختم السلطاني حديثه، متطرقا لأسماء لامعة أبدعت في صناعة العود العراقي، عبر عقود من الزمن، من بينهم الأسطة (حنا عواد الموصلي، وعلي العجمي) وأشهرهم الأسطة (محمد فاضل) الذي ذاع صيته عربيا وعالميا والذي بدأ بصناعة العود في سنة ١٩٣٢ واشتهرت صناعته في أرجاء العالم في الخمسينيات وهو الذي جعل من العود تحفة تباع في بعض الأحيان بالمزاد. مؤكدا على أنه أول من ابتكر العود (السحب) واشتهر بصناعته. وأول عود (سحب) صُنِعَ للفنان والمؤلف الموسيقي العراقي منير بشير الذي طلب من الأسطة محمد فاضل صناعة عود مقاوم لتقلبات الجو؛ حيث تم تحويل الفرس الذي يربط به الأوتار إلى ظهر العود كي يستطيع العازف سحب الأوتار لأعلى درجة دون الحاجة على الضغط على وجه العود. وأيضا هناك أسطوات بارعون في صناعة العود والذين أخذوا الخبرة والمقاسات والنظريات الفيزيائية في هذه الآلة الساحرة، هم الأسطة الراحل نجم عبود والأسطة فؤاد جهاد وأولاده، والأسطة عبد محمود ويوسف العواد وأياد الأسود وعلي العبدلي وسمير العواد ونجله سنان سمير وفاضل المياحي، وغيرهم الكثير الذين يعدون من أمهر وأبرز صانعي العود على المستوى العراقي والعربي".


صاحب الفضل

يغدق كثيرا على والده بالمديح والثناء والشكر، بسبب كونه صاحب الفضل الأول عليه من خلال تعلمه هذه المهنة. وأصبح له شأن كبير بين صانعيها في داخل العراق وخارجه. إذ يروي فارس فؤاد جهاد (صانع عود) أبرز حكاياته مع هذه الآلة منذ طفولته ولغاية الآن، إذ يقول: "هذه مهنتي ورثتها من والدي منذ كان عمري 10 سنوات. حيث عملت بالورشة (صانعا) وبوجود أخوتي الكبار اكتسبت الخبرة والدراية. وحينما أصبح عمري 14 عاما قمت بعمل وصناعة (الطاسة) التي هي ظهر العود، ومن بعدي يكمل أخوتي بقية التفاصيل. ولفرط عشقي لهذه الآلة دخلت معهد الدراسات النغمية لمعرفة خبايا وسحر هذه الآلة. وقد أستطعت أن أصنع عودا من خشب السيسم بعمر 17 عاما. وتحت إشراف الوالد. وبدأت بتطوير مهارتي وانفردت بفتح ورشة خاصة بي. ولدي فنانون يمتلكون عودا من صناعتي من العراق ودول الخليج وأوروبا". ويضيف: "أما عن الأخشاب المرغوبة التي نستعملها في صناعة العود هي خشب الجوز العراقي والسوري والتركي، وخشب السيسة الهندي وبالنسبة للوجه نستعمل الخشب السبروس والسيدار. وتوجد أخشاب أخرى منها: الخشب النيجيري والبرازيلي، والكاكا بلو، والميبل. لكنني ذكرت السيسم والجوز لأنهما مرغوبان. كما أن الذي يميز العود العراقي عن غيره، كونه كلاسيكيا وغالبية شكله تكون فيه فتحات بيضاوية. كالعود البشيري الذي يمتاز بنظافته ونقشته. والفرق واضح بينه وبين العود المصري الذي تمتاز نقشته بالصدف فضلا عن قالبه، كذلك الحال ينطبق على العود السوري".


علاقة وطيدة

بدوره يقول مهند الليلي (عازف عود ومطرب): "منذ وقت مبكر في حياتي شعرت بشيء غريب وجاذبية كبيرة تشدني للموسيقى ولآلة العود بشكل خاص. ورغم المسار الديني للأهل وجدت نفسي أداعب أوتار العود وأتعلم أصول العزف عليه، ومن شدة شغفي به تعلمته من دون معلم أو مدرب. ورغم أني لست أكاديميا لكنني تعلمت ودرست ذاتيا فنون العود الذي أدخلني لعالم الموسيقى الواسع، وأدركت أنه أكثر من مجرد صندوق خشبي تربط عليه أوتار، بل هو صديق أصطحبه أينما حللت وارتحلت. ومن شدة حبي وولعي بهذه الآلة الموسيقية تخصصت في عمل نقوشها الجميلة، مما جعلني في علاقة متينة مع أغلب صانعيها في العراق، ومنهم تعلمت أصول وأسرار صناعتها التي تعتبر قمة في الفن والدقة والذوق والمتانة، كما درّستُ العود لعدد من طلاب الفن. وأفضل العود الشرقي الكلاسيكي على العود الكهربائي الذي يفتقد لروح العود ونكهته الحقيقية".  


تراث ثقافي

ومن الجدير بالذكر أن وزارة الثقافة والسياحة والآثار؛ قد استضافت الاجتماع الثاني للجنة خبراء التراث الثقافي غير المادي في المنظمة العربية لإعداد الصياغة النهائية لملف "آلة العود.. الممارسات والمهارات وفنون الأداء"، مطلع العام الحالي. بمشاركة 15 دولة عربية. الاجتماع بين "أن حكومة العراق رسمت خطة لحفظ وصون جميع ما يتعلق بعناصر التراث العراقي وتسجيله في منظمة اليونسكو". وهدفه إدراج هذا العنصر على اللائحة التمثيلية لعناصر التراث غير المادي للإنسانية في منظمة اليونسكو. ‏