قدك المياس.. من القيروان إلى بابل {2-2}
كريم راهي
سبق أن أتينا في المنشور من القسم الأول، على بعض ما يخصّ الأغنية موضع البحث، وسنحاول في هذا الجزء المكمل الإلمام بكل ما وقع بين أيدينا مما يخصّ المبحث إياه، وغايتنا أن نكون قد قدمنا إلى موضوع (جذور الأغنية العراقية) ما يملأ الفراغ في هذا الصدد، وسنوالي تباعاً نشر كل ما سنفرغ منه، آملين أن نوفق في هذا المجال.
البواكير العربيّة
كنا قد ذكرنا أن لحن ما يُعرف لدينا بـ (قدّك المياس) هو ذو جذور تركية- يونانية، وقد انتقل إلى بلاد الشام، بحكم ارتباطها بالثقافة العثمانية التي كانت تهيمن آنذاك على رقعة جغرافية كبيرة من العالم، لكن علينا أن نقرّ أن ما يتغير في كل أغنية تنتقل من بلد إلى آخر أو من ثقافة إلى أخرى هو الآلات الموسيقية المصاحبة لها، ومحتويات كلماتها، بالإضافة إلى القصص المتعلقة بأصولها، وهنا سنتطرّق إلى عمليّتي تحوّل طالتا الأغنية إياها بعد أن تبنتها الثقافة الموسيقية العراقية،ـ التي كانت قد تلقّفتها كما هي في البداية، لكن تأثيرات زمنية ومكانية معينة، أدت إلى أن تتحوّل إلى ما يلائم الذائقة المحلّية. وعنها يقول صباح فخري لجريدة الاتحاد 1991: إن «خدّك المياس» لون غنائي قديم ترضي أذواق الذين هم أكثر اهتماما بالجملة الموسيقية.
إن أقدم تنويط موسيقي عربي وقعنا عليه هو ما نشرته مجلة (سركيس) اللبنانية بعددها الصادر في آب 1906، وقد ذكرت أنه جاء إهداء من الفنان وديع صبرا. فقد كتبت سركيس: «اشتهر جناب الموسيقي الشرقي وديع أفندي صبرا باتقانه واجتهاده وهو مقيم في باريس منذ 14 سنة دائب على إتقان هذا الفن حتى برع فيه واستحق إعجاب الأذكياء. وقد انصرف مؤخراً إلى وضع بعض الأغاني الشرقية في ألحان موسيقية ونوطة إفرنجية مفيدة صالحة للضرب على البيانو. وهذه الألحان تُطلب في مصر من جناب نسيب أفندي مشعلاني ومن إدارة هذه المجلة. وأراد وديع أفندي صبرا أن يُتحف قرّاء مجلة سركيس بهدية موسيقية فوضع لحن (قدّك المياس) مقيداً بالنوطة وطبع منه ما يكفي للتوزيع على جميع مشاركي المجلة فشكرت له غيرته ونشاطه، وأرسلت مع هذا العدد نسخة من هذا اللحن لكل مشترك، وهي تحفة تلذّ للمشتغلين بالموسيقى وللسيدات المهذّبات اللواتي يمارسن الضرب على البيانو. والأمل أن تستوجب هذه التحفة رضى القرّاء».
كما أنَّ أقدم تدوين للنصّ العربي لـ (قدك المياس) وقعنا عليه هو ما جاء في مخطوطة كتاب (سفينة الملك ونفيسة الفلك 1845) للشيخ شهاب الدين، وكان تقديمه كالتالي: «موشح حجازي ضربه سماعي ثقيل: قدك المياس يا بدري لغصون الآس قد يزري...» وقد ضمّ أربعة أدوار رباعية مصرّعة في كل أربعة أشطر». وأن هناك الكثير ممن جارى النصّ في التوشيحات الدينية والأدوار الطربية لاحقاً.
على أن الأب أنستاس ماري الكرملي يذكر في كتابه (حكاية التفتاف) أن الأغنية كانت مطلع القرن الفائت تؤدى بمذهب «خدّك المياس يا عمري فوق غصن البان كاليسري»، وبالكوبليه العراقي: «تلاطفني وألاطفها وأدير الكف من عواطفها يا محله مصّة شفايفها أحلى من السكّر والعسلِ». وهو النص الذي يُغنّى محرّفاً عمّا ورد في كتاب (منظومات الشعر) للشاعر الحمصي أمين الجندي: «وتلاطفني وألاطفها وأرى كفّي بمعاطفها ما أحلى مصّ شفايفها سُكراً بالسُكر وبالخمر»، وهو ما سمعناه بصوت المغني البحريني محمد زويد نقلاً عن العراقيين، وما نوهنا عنه في القسم الأول.
لقد مرّت هذه الأغنية بتطوّرات كثيرة قبل أن تصلنا، وقد فصّلنا ذلك في ما سبق، وفيه نوّهنا إلى أننا سنتطرق إلى اثنتين من التجارب العراقية المتفرّدة التي تتعلّق بها، وكلاهما من بابل العراقية، «بابل الخمرة والقانون والألسنة المشتبكة» بوصف سعدي يوسف. والتي انطلقت منها تجربتان لحنيتان (من مدينتي القاسم والحلة) أخذت كل منهما على عاتقها أن تتناول (القدّ الميّاس) كما تراه، وأعني تجربة كوكب حمزة في تلحين (يا نجمة) لحسين نعمة، وتجربة (الملا محمد علي القصاب) في مجاراة اللحن وكتابة كلمات أغنية ملائمة للّحن ليغنيها خالد الذِكر المطرب الفذّ سعدي الحلّي؛ ومذهبها: (أنه ريدك دوم تتدلّل.. حتّى أبقى بيك أتوسّل) وهي القصيدة التي لا تنتمي لأي بحر عروضي شعبي بالضرورة.
نجمة كوكب حمزة
يقول كوكب في جريدة القدس العربي شباط 1997: «عام 1968 سجّلتُ أولى أغنياتي، وكانت من شعر الراحل طارق ياسين وغناء غادة سالم، كان اسم الأغنية (مر بيّه). وبالرغم من كل الفذلكات اللحنية والتنوع الإيقاعي فقد فشلت. كانت هذه الأغنية تحمل في أحشائها أدوات لم تكن عراقية الطابع. كانت شكلاً مشوهاً لألحان الملحن المصري الكبير بليغ حمدي. الفشل هذا قادني إلى البحث عن الخصوصية بينما كانت أغاني زميليّ [يقصد طالب وكمال] مفعمة بعراقيتها العذبة. ابتدأ بحثي في البصرة –والبصرة مليئة بالتنوع مليئة بالغناء- اكتشفت (الخشابة) وألحان الزنج وسر لذة الجنوب. وفي بيت المسرحي عبد العزيز عبد الصاحب في مدينة الناصرية سمّعت (يا نجمة) لحسين نعمة، وبعد الدخول صرختُ وجدتها! انبثق اللحن من أعمق أعماق الروح وتلقح هذا اللحن بالموشح الأندلسي، وآنذاك ابتدأت عراقيتي. كان اللهاث جدياً وعميقاً، كنّا الثلاثة في حمّى الإبداع والبحث، وفي حمّى المنافسة أيضاَ». وتعقيباً على تأثر كوكب حمزة ببليغ حمدي فقد صرح في جلسة خاصة جمعتني وإياه عام 2012: «لقد نقل محمد الموجي الأغنية العربية إلى مرتبة الحداثة حين لحن (كامل الأوصاف) لعبد الحليم».
ومما يجدر الإشارة له أن هنالك حلقة من برنامج (عزف منفرد) موثقة على اليوتيوب عام 2013 التقى فيها مقدم البرنامج الموسيقي أحمد مختار، بعازف القانون ومدير عام دائرة الفنون الموسيقية آنذاك حسن الشكرچي، يروي فيها الشكرچي -وهو المولود في الناصرية- أنه عام 1970 حين كانت تجمعه رفقة قوية بالشاعر كاظم الركابي، كانت (يا نجمة) أهزوجة شائعة في الناصرية يرددها الشباب على ضفاف النهر ومذهبها (متعلية وتشوفين عونچ يا نجمة... گلب «السفيه» ينام گلبي اشينيمه). وإنه تحدث مع الركابي بخصوص توظيفها كأغنية، فسارع الركابي لذلك. وبينما كان يقوم بالاشتغال على الأغنية ليلاً، فوجئ بدخول الركابي وكوكب حمزة وفؤاد سالم قادمين من المقهى صوبه، فقال كوكب إنه اتفق مع الركابي لتلحين هذه الأغنية وإنه يرغب بها. فضحكتُ -والقول للشكرچي- «وتنازلت له عنها». يقول كوكب في تصريح لاحق لجريدة القدس العربي نفسها: «في طفولتي كنتُ أرى أعراساً ومآتم كثيرة، وفي الأعراس كان هناك أغان ريفية إضافة إلى أغاني الغجر، والتراث الشيعي المليء بالموسيقى والغناء، فالقارئ يلحن ويغني، واللاطم يلطم على إيقاع، وقد تشبّعتُ بكلّ هذا، إضافة إلى تراث البصرة الموسيقي المتفرّد جداً في أصول الغناء، وإضافة إلى كل هذا أعتقد أن مظفر النواب أضاف لهذا التراث أغاني الأهوار. تشكّلت كل هذه الأشياء ثم خرجت أول أغنية لي في هذا السياق هي أغنية (يا نجمة)، وهي أغنية تراثية حاولت تلقيحها بالتراث الأندلسي».
وعن أصل الكلام الشعري نقول، إن مذهب «نجمة» كوكب حمزة هو من الدارمي المقلوب إلى أصله، والمتطوّر من السويحلي (بدوي الأصل) الذي كان يُقرأ بقلب الصدور على الأعجاز، وأصله: «متعلية وتشوفين عونچ يا نجمه... نامت عيون الناس گلبي اشينيمه». وثيمة بيت الدارمي هذا هي من المأثور مجهول الناظم كأغلب هذا النوع من الشعر الشفاهي، وقد ورد مثله في أغنية (منين اجاني هواي) للحن منسوب لصالح الكويتي، ما غناه هادي سعدون في السبعينيات منسوباً إلى أحمد الخليل: «لأسهر واعد نجوم نجمة اعله نجمة... گلبي الخليّ ينام گلبي شينيمه». وكان القبنچي كان قد غناها بتسجيل قديم لا يرد فيه الدارمي إياه، ونعتقد أن الأسبقية للناظم المجهول (أعادها يوسف عمر مع الدارمي المذكور بتصرف)، كما غنتها فرقة الإنشاد العراقية التي أسسها روحي الخماش، وكانت قد غنتها الست روتي وغناها عبد الرحيم الأعظمي وآخرون كبستة بعد مقامي المدمي والحويزاوي.
بينما جاء لحن مذهب (يا نجمة) مستعاراً من البستة العراقية (ما رابط)، وهي «التراثية» بتعبير (كوكب)، أما إضافة (النوب النوب النوب)، فهي مستعارة أيضاً من البستة إياها التي قدمتها في تسجيل قديم يعود للعشرينيات، أي بعد بدايات الطرب ببغداد الذي أعقب الثورة الدستورية التركية 1908، المطربة الحلبية (رحلو فريدي) -بتسجيل من مقتنيات المؤرشف ولاء الحلّي- وأصلها «ماريده بنوب بنوب بنوب» أي «لا أريده نهائياً» والتي تطورت إلى (النّوب) في ما تلاها من أداء لفرق (الچالغي) التي غنتها، وأشهرها بأداء (حسقيل قصاب) ذي الإيقاع الثقيل جدّاً «الذي يحتاج عزفُه إلى قراءته منوّطاً» بتعليق الموسيقي (علي المظفّر).
إن ما يهمنا هنا هو كوبليهات كوكب حمزة الأندلسية (القدّية)، وليس مذهب أغنيته التراثي (ما رابط)، كما أشار إليهما بالقول أعلاه، ففيها تأتي الكلمات -وهي لكاظم الركابي وهو من أهم شعراء أغنية السبعينيات- من وزن يختلف عروضياً عن وزن الدارمي، وهو المحاكاة التي لم ينكرها الرجل للقدّ الميّاس، وهكذا تستمر المبادلة بين الكورس وبين انفراد حسين نعمة المستعار نصفه من القدّية: «آنه بحلم لو يمر.. تاخذني فرحة عيد»، بإضافة كوكب اللحنية في النصف الآخر: «وما ريد جية الفجر... خافن جفانا يعيد»، ثم بالقرار الأعمق في صوت حسين نعمة: «يا نجمة ريت العشگ... ياخذنا مدّه بعيد». وهو القرار الذي علّق عليه كوكب حمزة مرّة بالقول: «إنه من تأثيرات عوض دوخي على جيلي بشكل عام»، في جلسة خاصة ضمتنا في ستوكهولم صيف عام 2011.
لقد أخذت هذه الأغنية مكانتها اللائقة بها ضمن حملة (هوس مطربي السبعينيات بإعادة إنتاج التراث الغنائي العراقي) وهو ما سنتطرق له بموضوع لاحق، وطارت شهرتها في الآفاق حتّى أنه في يوم من أيام آذار عام 1969، كتب الشاعر والرسام والصحفي العراقي إبراهيم زاير «الفدائي الذي انتحر» كما دعاه الشاعر صادق الصائغ، قصيدة بعنوان (يقين وشك منتبه غافل)، جاء فيها:
«انا كائن الساعات اللامعة ورجل الموت المحتمل
المرأة تبكي. أما أنا فأحسد النجوم:
يانجمة عونج
عونج يا نجمة .متعلية وتشوفين ..
عونج يا نجمة.
هبط المساء
على الحديقة».
ثم بعد ذلك بثلاث سنوات، أطلق على رأسه رصاصة، وانتحر!
بينما ترى لطفية الدليمي فيها أنها (نوستالجيا عراقية)، فتكتب عام 2003: «أسمع مغنّياً يستنجد بصوت رخيم وينادي من لا يهتك سرّاً: يا نجمة.. عونج يا نجمة»!
ومثلما دخل حسين نعمة بأغنيته تلك في الوجدان العراقي بعد أكثر من ثلاثة عقود عليها، كان قد دخل دار الإذاعة العراقية باقتدار، ففي مدوّنة (الگاردينيا) على الويب، يذكر السيد (نزار السامرّائي)، وهو من أوائل العاملين في إذاعة بغداد بعد تموز 1968: «عرفتُ الفنان حسين نعمة عام 1970 وربما قبل ذلك، لما جاء وسجل أغنية «يا نجمة»، والتي حظِيت بقبول شعبي واسع، واهتم بها الرئيس أحمد حسن البكر [...] فأمر بتكريم حسين نعمة وفتح أبواب الإذاعة بوجهه».
حول «قدّيات» سعدي الحلي والقصاب
بداية يجب القول إن شاعر أغنية سعدي المعروفة بـ (أنه اريدك دوم تتدلّل) هو الملا محمد علي القصاب، وهذا ما يؤكده الشاعر بنفسه في ندوة حاوره فيها صلاح اللبان نظمتها جمعية الشعراء الشعبيين في الحلة عام 1993، إذ يأتي على ذكرها مقرونة بقصيدة (أحب من يگعد گبالي) اللتين غناهما سعدي الحلي (والفيديو من مقتنيات المؤرشف ولاء الحلي نشره الموسيقي حسين مسلم على قناته في اليوتيوب).
يقول محمد نوشي (ملحن أغنيتي ليلة ويوم وعشگ أخضر لسعدي الحلي) في مقابلة تلفزيونية موثقة في اليوتيوب: إن سعدي قبل أن يغني الغناء العراقي كان يميل إلى غناء الأغاني العربية الصعبة، وإنه حين غنّى (أنه اريدك دوم تتدلّل)، كان قد طرق سمعه عام 1967 أو قبلها بعام في (إذاعة القوات المسلحة)، أي قبل ظهوره في الإذاعية الرسمية، (ويقصد فترة ملازمته للشاعر الملا محمد علي القصاب)، وبذا يؤكّد أسبقيته على ظهور (يا نجمة) لكوكب حمزة، وكل من الأغنيتين هو تنويع مأخوذ من لحن (قدّك المياس).
بينما يذكر الشاعر والمؤرخ الغنائي الحلي (صلاح اللبان) في كتابه (الملا محمد علي القصاب، حياته وشعره) أن أغنية (أنه اريدك دوم تتدلل) التي نظمها القصاب على غرار (قدك المياس) هي سبب دخول «الفنان سعدي الحلي دار الإذاعة العراقية»، مؤكداً على أن ذلك كان «في بداية السبعينيات».
ويذكر السيد (محمد علي محي الدين) في مدونة له أن سعدي الحلي، وهو ابن عم والدته «في أواخر الستينيات سجل أغنيته الأولى في الإذاعة بعنوان أريدك دوم تدلل كلمات الشاعر محمد علي القصاب، وهي استنساخ لحني من أغنية صباح فخري قدك المياس يا عمري».
بينما يذكر نوفل الجنابي في كتابه (الحلة عاصمة السخرية) أن الأغنية كانت «أول أغنية كتبها القصاب لسعدي الحلي، وأول أغنية أذاعتها الإذاعة العراقية له». مشككاً أن ذلك التاريخ قد يكون بداية السبعينيات.
ويُعقبّ الموسيقي والباحث الحلّي (حسين مسلم) فيكتب في (الحوار المتمدن): «أخذ صدى صوت سعدي الحلي يتردد في جميع أنحاء العراق من خلال (البكرات)، وكان ذلك في الستينيات فاستمع إليه الصحفي الذي كان يعمل في إذاعة بغداد الأستاذ زيد الحلي وقدمه إلى الإذاعة، فقدم أول عمل (انا أريدك دوم تدلل) [على الطبلة]، التي كتبها الملا محمد على القصاب على نفس لحن أغنية (قدك المياس)».
ويزعم أبو علي الخفاجي (وهو اسم مستعار لواحد من أبرز أعضاء منتدى سماعي): إنها «التسجيل الاذاعي الرسمي الثاني للأغنية، حيث عمل الحلي تمارين(بروفات) مرتين لهذا التسجيل، ومتابعتي الشخصية إلى اللحظات الأخيرة كان القرار تقديمها كأغنية فقط.. ولدت الأغنية ولادة عسيرة منذ تسجيلها الأول، الذي ولد بدوره بعملية قيصرية نتيجة الاعتراضات الشديدة على الأغنية من قبل الملحنين ضمن اللجان الإذاعية في حينه. وكان السبب كون اللحن مستوحى من (قدك المياس يا عمري)، ولكن الطلبات الكثيرة والمتكررة عليها من قبل مستمعي إذاعة القوات المسلحة (هكذا كان الاسم حين ذاك)، كونها أصلاً هي أغنية معروفة ومشهوره للحلي، خصوصاً بعد ظهور الحلي تلفزيونياً بأغنية (عيوني مساهرات الليل) هو الذي أرغم الجميع على التسجيل والبث، وكان عملاً شاقاً تمخّض عن أغنية أصبحت فيما بعد من أجمل ما غنى الحلي».
لكن الأصوب والأدق هو ما ينقله الشاعر والصحفي (زيد الحلّي) عن الكاتب (مظهر عارف) قوله: «بعد اكتشافه للمطرب ياس خضر وتقديمه الكاسيت الذي يضمّ اغنيته التي تحمل اسم (الهدل) الى الملازم في اذاعة القوات المسلحة العائدة لوزارة الدفاع الفنان الراحل (راسم الجميلي) [وكان ذلك في بداية الستينيات]، قدم زيد الحلي كاسيتاً آخر يضم أغنية [على الطبلة فقط] تحمل اسم (أنا ردتك دوم تتدلل) لمطرب غير معروف للشعب العراقي [آنذاك] قال الكاتب إن اسمه (سعدي الحلي)». وفي اتصال هاتفي معه أكّد لي السيد زيد الحلّي قبل أيام أن الأغنية كانت شائعة في النصف الأول من عقد الستينيات، وأنه قدّم حينها تسجيلاً لها (على الطبلة فقط) لإذاعة القوات المسلّحة، حيث كان يعمل آنذاك، كأوّل عمل للمطرب سعدي الحلّي.
ولقد أعاد ثنائي (القصاب والحلّي) الكرّة بعد نجاح الأغنية المذكورة، فأنتجا من بعدها أغنية مذهبها (شلون الك حبّيت ما أدري... وبيه نار الشوگ خل تسري)، وهي على نفس اللحن مدار البحث. لكنها لم تأخذ شهرة الأغنية السابقة التي بقيت تصدح في مسجلات الكاسيت، في المقاهي وفي باصات الـ (OM) للنقل العام، مشفوعة بتأوهات سائقيها، كما شهدتُ ذلك بنفسي في بداية السبعينيات.
ويمكن لنا استناداً على ما سبق قوله، الزعم أن «موشّحي» الملّا القصّاب إيّاه المعتمدين على لحن (قدّك الميّاس) كانت لهما الأسبقية الزمنية على (يا نجمة) كوكب حمزة، وعلى التأثر المصري بـ (قدّك الميّاس)، إذ إن مطولات عبد الحليم المسرحيّة جاءت بعد أغاني فيلم (أبي فوق الشجرة) الذي هو من إنتاج عام 1969، ونعني أغنيته (مداح القمر) التي جاء فيها مقطع من القدّية إياها، وكذلك الأمر مع أغنية محرم فؤاد (يا بسيم العين)، وهما الأغنيتان اللتان أتينا على ذكرهما في القسم الأول المنشور من هذا المبحث، باعتبارهما من تأثيرات لحن (قدك المياس) البلقاني على الغناء العربي.