د. سعد عزيز عبد الصاحب
أجرى المخرج والمؤلف والدراماتورج الراحل قاسم محمد (1936 ـ 2009) تحولات عديدة في أنساق عروض المسرح العراقي المعاصر وبنيته الداخليَّة، كان أولها الانفتاح على المدوَّنة السرديَّة لغائب طعمة فرمان في رواية (النخلة والجيران) وتحويلها إلى نص درامي ممسرح، مما شكل انعطافة جليَّة في استنطاق الموروث السردي العراقي المعاصر ببيئات شعبيَّة بغداديَّة لم يألفها الجمهور المحلي آنذاك.
والتحول الآخر هو في الانصراف إلى الظواهر والجذور شبه الدرامية في التراث العربي الإسلامي، كالمقامات ورسائل أبي حيان التوحيدي والبخلاء، والحيوان والبيان والتبيين للجاحظ وشعر الكدية والسماجة في العصر العباسي الأول، وفي السوق البغدادي القديم، وفي التناقضات الاجتماعية الطبقيَّة التي عصفت ببنية المجتمع الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وما انطوت عليه تلك التناقضات من صراعات اجتماعيَّة، وما أفرزته من شخصيات تاريخيَّة متمايزة سواء كانت ايجابية أم سلبية عاشت في بطون كتب التراث المحققة، كل هذا الخزين منظوراً اليه من وجهة نظر ايديولوجيا اليسار آنذاك. وابتدأ قاسم محمد من حيث انتهى المخرج المغربي الطيب الصديقي الذي التقى به في مهرجان دمشق المسرحي عام 1971 بعد أن شاهد له عرض (مقامات بديع الزمان الهمداني)، ودارت بينهما حوارات طويلة حول مسألة عصرنة التراث العربي الإسلامي، ووجود مظاهر مسرحية أو شبه مسرحية في أشكاله النثرية والشعرية والطقسية، وهل أن هذه المظاهر ستسهم في ايجاد مسرح عربي يتكأ على التراث العربي الإسلامي وطلاق ومفارقة التراث المسرحي الغربي؟.
كانت هذه الدعوة (التأصيل) تتكرر في كل عنوانات المحاور الفكريَّة والندوات المسرحية في المهرجانات العربيَّة في السبعينيات والثمانينيات، إلا أنّ قاسم محمد قد حولها فعلاً إلى جانب عملي اجرائي بعروض (بغداد الأزل بين الجد والهزل) و(كان يا ما كان) و(مجالس التراث) و(رسالة الطير) و (طال حزني وسروري في مقامات الحريري) ولم ينتظر خروج (منفستو) يعلن خصائص وسمات المسرح العربي الجديد. وكانت الركيزة الأساس في بناء نصوص قاسم محمد هي المقامتين الهمدانية والحريرية فضلا عن المشارب والأنواع التراثيَّة الأخرى، وكي لا يتناص أو يتشابه مع أطروحة (الطيب الصديقي) في (الهمداني)، تكفّل بولادة النص العلائقي الدرامي الجديد المنفتح على غلالة واسعة من النصوص والمصادر التراثيَّة، والمقامات ودورها في صياغة عروض قاسم محمد لما لها من خصائص دراميَّة. إذ تسترعي الانتباه عند قراءة مقامات الحريري ندرة الأسماء الشخصية إذا استثنينا مجموعة من الأسماء التاريخيَّة أو الخرافيَّة، فإنّنا لا نكاد نجد إلّا اسمين شخصيين اثنين: (الحارث بن همام) و (ابو زيد السروجي). أما بقيت الشخصيات فلا تحظى إلا بتسميات عامة كالابن والزوجة والقاضي والامير مما يقرّبها من فواعل المنهج المسرحي التعبيري المعاصر. وهذا يعني أن الشخصيات الفردية تذوب في الانماط الإنسانية، وكذلك سيادة مفهوم (العمومية) في اسمي ابي زيد السروجي والحارث بن همام، فالاخير اسم لا نستطيع أن نتصور اسما أعم منه، إنه مأخوذ من حديث نبوي معروف: (كلكم حارث وكلكم همام) فهو اسم يمكن أن يطلق على أي إنسان، اما الاسم الآخر فإنه يشتمل على (زيد) ومن المعلوم أن زيدا وعمرا اسمان كثيراً ما نجدهما في كتب النحو والبلاغة بتداوليَّة واسعة، شخصيات الحريري موصوفة بسرعة في غالب الأحيان فبعض الاشارات تكفي لاظهار وابراز النمط. وكل مفهوم كالجمال والقبح والكذب والشجاعة والحكمة مرتبط بشخصية تاريخيَّة أو أسطوريَّة، الحكمة مرتبطة مثلا باسم لقمان. إذن فخصائص الشخصيات في مقامات الحريري صادرة عن (الحقل الثقافي) والوصف بمثابة تلميح واستشهاد باسم. لقد ألّف الحريري خمسين مقامة وكل مقامة مستقلة بذاتها فشخصية (ابو زيد السروجي)، (براقشية) لا يمكن تركيب أجزائها ـ كما يعبر المفكر المغربي عبد الفتاح كيليطو ـ وكذلك لا يمكن الربط بين المقامات في وحداتها السرديَّة، وكأنّها تشبه الوحدات الدرامية القائمة بذاتها في المسرح الملحمي، تطرح مقامات الحريري مسألة الانفصال بين القول والفعل، فالسروجي كثيراً ما يشرب الخمر مباشرة بعد إلقائه موعظة تذيب قلوب المستمعين، هذا التناقض الصارخ بين الخبر والمخبر يغيظ صاحبه الحارث بن همام الذي ينتظر أن يكون السلوك مطابقاً للقول، كأنّنا أمام ازدواجية (بونتيلا) لدى الكاتب الألماني بريشت فهو في حالة السكر يتعامل بود وسخاء مع عماله وعند الصحو ينهال عليهم بالأوامر واللعنات. إنَّ من يقرأ المقامات لدى الهمداني والحريري يجد أن جميع الأنواع الأدبيَّة لها مكانها في وحداتها السرديَّة، وهذا ما يجعل ابو زيد السروجي، وعيسى بن هشام يقدمان صوراً كثيرة لنفسيهما ويتقمّصان عدة شخصيات ويلخص (كيليطو) خمسة خصائص للمقامات، ومدى تأثيرها على الدراما المعاصرة حين اتخذ منها (قاسم محمد) معيناً لعروضه المسرحيَّة بالآتي:
1 ـ السند: ليس في المقامات متكلم واحد، وانما عدة متكلمين يصير اليهم القول بالتوالي، ببنية بوليفونية متعددة الأصوات.
2 ـ السفر: المقامات جولة واسعة في مملكة الاسلام، ليس من المصادفة أن يظهر هذا النوع في وقت شهد طواف ابن حوقل والاصطخري والمقدسي في العالم قصد ضبط المسالك والممالك.
3 ـ نمطان إنسانيان متناقضان: الأديب والمكدي كلاهما يجد صورته في الاخر ولكن ممسوخة على الرغم من اختلافهما فإن اللغة نفسها تجمع بينهما.
4 ـ حكاية مبنية على ما يسميه أرسطو بالتعرّف: المكدي يستتر وراء قناع ولا يكشف عن هويته إلا في نهاية المقامة.
5 ـ فن كتابي يشير إلى الأسلوب الرفيع: وهو مزيج بين النثر والشعر ومزيج آخر من الأنواع الأدبيَّة ومن الجد والهزل.
لذلك لم يذهب قاسم محمد للاغتراف والأخذ من مقامات الزمخشري، مثلا التي لا تتوافر فيها النقاط الأربع الأولى بينما تتوافر على النقطة الخامسة فقط، وكان ذكياً في إعادة انتاج البنى التراثيَّة وتحويلها للدراما من منطلقات جدليَّة (ديالكتيكية) أول الأمر، حيث تظهر في عروضه (بغداد الأزل بين الجد والهزل) و (كان يا ما كان) الانماط المغيّبة والمسحوقة من شخصيات المجتمع العربي الاسلامي والتظاهرات الضاجة بالاحتجاج والرفض في الاسواق والمنتديات على البطالة وفساد السلطات.. قلَّت تلك النبرة وذوت في عروضه اللاحقة لاشتداد حدة قبضة السلطة على النشاط الثقافي والمسرحي بشكل خاص.