شعر الاعتراف
ماري جريس مانجانو
ترجمة: عبود الجابري
غالبًا ما يلجأ الناس إلى ثنائية الأفضل والأسوأ في تصنيف الشعراء على وجه التحديد. أحد الأسئلة الأكثر شيوعًا يتمحور حول ما إذا كان شاعراً اعترافياً أم لا، في بعض المحافل يعتبر الشعر الاعترافي مصطلحاً قبيحاً، بينما يرى البعض الآخر عدم كونك شاعراً اعترافياً أمراً مخالفاً للحداثة، ومن الطريف جداً أن هناك بعض الجدل حول تعريف شعر الاعتراف، ومع ذلك، هناك ما يكفي من الاتفاق على أن الاهتمام الرئيسي في التعريف ينصبُّ على (الأنا) الشعرية، ومن هو المتحدث في القصيدة؟ وهل الشاعر هو نفسه المتحدث؟ أو هو ينتحل شخصية أخرى وسيلةً لبناء نصِّه الشعري؟.
لا يكفي أن نقول إنَّ ما يميِّز شعر الاعتراف هو أنه نوع من السيرة الذاتية، فهذا النوع من الشعر يكشف ويتعامل بشكل وثيق مع الآلام الإنسانية الخاصة إلى حدٍّ ما، إضافة إلى أنَّ كونه نوعاً من الشعر الحديث يجعله يقوم على رفض الأساليب التقليدية من الشعر، تلك التي تربط السوناتات بالحب والملاحم بالقوة.
في مقال يتناول شعر الاعتراف، تقدم الشاعرة “راشيل زوكر” نبذة تاريخية تبدأها بشكسبير، الذي استخدم الضمير “أنا” للإشارة إلى نفسه أحيانًا، ثم تتحدث عن الرومانسيين، الذين كتبوا عن أنفسهم، لكنهم فعلوا ذلك من خلال التركيز على مواضيع مثل الطبيعة، وتذكر زوكر الشاعر والت ويتمان، الذي تشمل “أناه” الكون، وإليوت، الذي “أراد أن يهرب الشعر من الشخصية والعاطفة”، بينما تزعم زوكر أن الشعراء الأمريكيين، مثل لويل وسنودجراس وبلاث، تمردوا ضد إليوت وتناولوا بشكل واضح تفاصيل حياتهم لجذب القراء، ومع ذلك، فإن النقاد مثل زوكر لديهم وجهة نظر قد تبدو صحيحة، فربما لم يكن هذا النوع من الكتابة جديدا كما يراه الناس.
إذا كان شعر الاعتراف نوعاً عن المكاشفة الذاتية، فإنّ الكثير من الأدب يمكن تصنيفه بهذه الطريقة، ويبدو كذلك أن هناك تقليدًا عريقاً في الكتابة من أجل الكشف، وخاصةً الكشف عن الذات - وخاصة بالنسبة للمسيحيين. ويمكن القول إن هذا هو أحد أساسيات الكتابة، ونعني بذلك “الكشف”، بينما يبرز السؤال الأهم، هل ينحصر الكشف بماهية الذات والحياة الداخلية لها؟.
في حوار مع الشاعر كريستيان ويمان، تقول كارولين فورشيه، نعم، الشعر الاعترافي يدور حول الحياة الداخلية، و”ما يكتبُ على الورق هو أعمق ما في داخلك”، كما تقول. وتقتبس فورشيه أيضًا من جاك ماريتان الذي يقول إنَّه “عندما يكون الوعي واللاوعي متوافقين تمامًا، عندها يمكن للمرء الوصول إلى جميع مجالات العقل”.
من وجهة نظر فورشيه، هذا هو الوقت الذي يستطيع فيه المرء أن يكتب شيئًا أصيلًا يكشف العالم حقًا. كلمة “كشف” لديها ما تخبرنا به أيضًا، والكشف مفردة أصلها متعلق بالإنارة من خلال الوحي الإلهي، ما يمكن أن يجعل الكتابة نوعاً من الكشف، ليس بفعل يقصده الشاعر، وإنما بالإلهام الإلهي، وقد يكون من المفيد النظر في ماهية الكشف، هل يكشف الشاعر عن نفسه؟ أو ان الشاعر هو الذي يكشفُ لها شيئا؟ بينما يرى المعتقد المسيحي أن الكشف أمر منوط بالله وحده.
وقدر تعلق هذا النوع من الكتابة وطريقة التفكير، فإنَّ أوغسطين هو النموذج الأمثل في الواقع، وقد يمتد كذلك إلى أيوب، الذي يناجي ربّه ويكشف عن آلامه، لكنَّ أوغسطين يقدم نموذجًا للكتابة الاعترافية بطرق عديدة، فهو يريد أن يروي قصة ما حدث له، وعليه أن يفعل ذلك من خلال الاعتراف – لله، لنفسه، ولقرائه.
ولكي يروي قصة نفسه – سيرته الذاتية الروحية – كان عليه أن يكتب اعترافات، يعرض فيها خطاياه الماضية ويراجع كيف كان يفكر ويتصرف، في حين يتحدث أيضاً عن الطريقة التي قادته إلى رحمة الله ومحبته.
الاعتراف، باعتباره سرّاً في الكنيسة الكاثوليكية، يضعُ الناس “وجهاً لوجه مع سرِّ محبة الله”، مع “نظرة المحبة”. في الكتاب العاشر من الاعترافات، يكتبُ، “لذلك يجب علي أن أتجاوز الذاكرة أيضًا، إذا كنت أريد الوصول إلى الله الذي خلقني”. يدرك أوغسطين أنَّه يجب عليه أن يحاول، باعترافاته، أن يسعى إلى شيء أعلى منه حتى يتمكن من الوصول إلى ما هو أعلى منه، ليرى نفسه بوضوح أكبر ويفهم نفسه كما يراه الله، أي كما هو حقًا، بينما يوجه كلامه إلى الله كما لو كان في صلاة: “لقد مشيتَ في كل مكانٍ بجانبي أيُّها الحق، وعلَّمتَني ما يجب أن أطلبَ وما يجبُ تجنُّبه، كلَّما وضعتُ أمامك الأشياء”.
تعلِّقُ الشاعرة ماري جو سالتر على الطريقة التي اتبعها الشاعر مارك ستراند في كتابة قصائده، قائلةً: «سأستمتعُ دائماً بالطريقة التي تراجَعَ بها ستراند النرجسي عن نفسهِ، بل ونسيَ نفسهُ، كما أعلنَ، لقد خدمَ فرادةَ القصيدةِ وليس تفرُّدَه وتجرَّأ على الاعتراف بالغموضِ، وذلكَ نوعٌ من التواضعِ والخبرة، وبطبيعة الحالِ، يمكنُ للأنا في القصائد الغنائيةِ أن تتحدَّث نيابةً عن الجميع”، وفي هذه الحالة، فإنَّ الشيء المهمَّ الذي يتمُّ الكشف عنه ليس بالضرورة التفاصيل الشخصية لمعاناة الشاعر أو تجربته الخاصة، ولكن كاثوليكيَّةَ تلك التجربة، تُحتِّمُ كشفَ شيءٍ ما عن الطبيعة البشريَّةِ عندما تقدِّمُ “الأنا” الشعرية خصوصيتَها إلى النور والسرِّ الإلهي، وهو أمرٌ يتطلَّبُ التواضع والانكسار، كما تُشيرُ سالتر.
منذ نشَر دانتي عمله التأسيسي “الكوميديا الإلهية”، قام العديد من الكتاب الآخرين بمثل هذه الرحلات الخاصة بهم، مواصلين هذا التقليد، في إعادة صياغة للسيناريو المقترح في الحوارات والشخوص الذين يتم اللقاء بهم، كما فعل “شيموس هيني” في قصيدته “جزيرة المحطة” حين التقى الشخصيات الأدبية التي يعرفها، ولإضفاء الصفة الاعترافية على القصيدة وضع لها عنواناً فرعياً هو “مطهر القديس باتريك” ، إشارة إلى بحيرة لوف ديرج في مقاطعة دونيجال، التي كانت موقعًا للحج المسيحي لعدة قرون. يقول المتحدث في جزء من القصيدة:
“بينما كنتُ أسيرُ خلفهم
كنت حاجًّا صائمًا
خفيفَ الرأس
أغادرُ المنزلَ لأواجهَ محطَّتي.”
جسديًا وروحيًا، تمامًا مثل أوغسطين ودانتي، “يواجه” هيني نفسَه ومحطته، بعد أن أدّى فرائضَ الحجِّ والاعتراف، والتقى أولئك الذين يمكنهم تعليمه رؤية نفسه بشكل أكثر وضوحًا، وبالمثلِ، في “التمجيد الصغير” لإليوت في رباعيّاته، حيثُ كتب:
“برسمِ هذا الحبِّ
وصوتِ هذا الاتِّصال
لن نتوقف عن الاستكشاف
وفي نهاية كل استكشافٍ لنا
سوف نصلُ إلى حيثُ بدأنا
ونتعرّفُ على المكانِ لأول مرة”.
عندما يتعلق الأمر بالجانب الجمالي، يبدو أنه لا يهم ما إذا كان المرء شاعرًا اعترافياً أم لا، إنها ثنائية زائفة، وبعد كل شيء، فإنَّ أي شاعر مهتم حقًا بجودة ما يكتب من شعر لا يمكنه أن يتجاهل نفسه تمامًا، ولا يمكنه أيضًا التركيز بشكل ضيِّقٍ جدّاً على الذات. “الأنا” الشعرية تمدُّ يدها إلى الله لتتمكنَ من رؤية نفسها في ضوء الحقيقة، بينما يقدِّم الشاعر تجربتَه الخاصَّة، ورؤيتَهُ الخاصَّة لتعيده إلى نفسه، فيراها كما في المرآة، من أوغسطين إلى دانتي، وحتى العام الحالي، فإنَّ الصفحة الفارغة بمثابةِ اعترافٍ للشاعر. إنها أرض مقدسة وحركة روحية تنوء بالأسرار، يعرض فيها الشاعر ما حدث له ويطلب أن يُرفع عنهُ الحجابُ ليَرى ما ينكشف.
_____________
- ماري جريس مانجانو: شاعرة وكاتبة، تنشر في العديد من الدوريات الأدبية، حصلت مؤخرًا على درجة الماجستير في الدراسات الشعرية، من جامعة سانت توماس في هيوستن.
- المصدر: Dappled things Magazine