ألان تورين.. حريتنا بين قوانين الطبيعة وحقوق الإنسان
ترجمة: كامل عويد العامري
هل سنقبل فكرة أن دور العلوم الاجتماعية هو اكتشاف القوانين التي تحرك السلوك البشري، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي؟ لقد قبلنا في البداية - وبحماس كبير - أن العلوم الطبيعية، خاصة منذ داروين، تهيمن على الاستكشاف النظري للمجتمعات والحضارات، في ذات الوقت الذي كانت فيه علومنا وتقنياتنا تحول العالم وكان يبدو أن تقدم معارفنا يفتح الطريق نحو حريتنا - وحتى الديمقراطية. إنه تحالف موفق بين قوانين الطبيعة وحقوق الإنسان!
ينقسم العالم اليوم إلى ثلاث مناطق: المنطقة التي تهيمن عليها رأسماليّة مالية ومعولمة بشكل متزايد، حيث تتركز السلطة في أيدي عدد صغير جدًا من أصحاب المليارات «فاحشي الثراء»؛ وتلك التي تهيمن عليها نظم استبدادية وشمولية، التي تهيمن عليها القومية؛ وأخيرًا، تلك التي تهيمن عليها حركات وأنظمة طائفية وهوياتية والتي يتمثل شغفها الأكثر نشاطًا بكراهية الآخر.
وحيث تمكنت الآمال والحركات الديمقراطية من تأكيد نفسها، بدأ الشك والقلق والارتباك يترسخ.
وينتشر الفكر بأننا لم نحترم قوانين الطبيعة وأننا عرضنا أنفسنا لكارثة بيئية، بينما طُرد عشرات الملايين من اللاجئين والمهاجرين على الطرق والبحار نتيجة للاضطهاد والفقر.
إن المسافة تتقلص بسرعة بين العالم الذي يريد معظم الاقتصاديين، من جهة، والناشطين الثوريين، من جهة أخرى، اقناعنا بأنه خاضع لقوانين الرأسمالية، والعالم الذي ينتصر فيه تعسف السلطة السياسية أو العسكرية أو الدينية.
هل حان الوقت للاستسلام والتخلي عن أوهامنا وقبول العيش في العالم الذي توقعه جورج أورويل، على أمل أن تكتشف العلوم الطبيعية، من خلال تجاهلها حتى للقيم والمعتقدات والتقاليد، إن التعقيد والمصادفة يقدمان لنا فرصًا أفضل بكثير من المطلقات التي يتصورها الإنسان عندما يتجسد كآلهة؟
لقد كرست، كثيرا من الوقت، مثل كثيرين غيري، جهودًا للسباحة ضد التيار، معجبا بشدة بكل أولئك الذين دافعوا عن الحقوق ضد القوانين، والحريات ضد السلطات، والبحث ضد المحظورات.
لكن ربما لم أكن لأتحلى بالشجاعة الكافية للتمسك بقناعاتي والحفاظ على آمالي في ذلك الجزء من العالم الذي أعيش فيه، وعلى الرغم من كل العقبات التي واجهتها، لو لم أسمع صوت جوزيف سستيجلز الهادئ والثابت، الذي أصبح من خلال كتبه وتقاريره الأكثر تأثيرًا واحترامًا من جوائز نوبل في الاقتصاد.
ولأن الخصم الذي كنت أوجهه باستمرار لم يكن دكتاتورية، بل فكرًا مهيمنًا، على اليسار واليمين، اخترت محاربة هذه الحتمية الاقتصادية عندما دخلت مرحلة الكتابة النهائية من تأليف الكتاب الذي يمثل الهدف النهائي في حياتي.
هكذا سمعت كلمات جوزيف سسستيجلز. أود أن أنسخ هنا بضعة أسطر من الصفحات 348 إلى 352 من كتابه «الصدع الكبير، المجتمعات غير المتكافئة وماذا يمكننا أن نفعل حيالها «. الصادر عام 2015، ... فهو يبين من خلال مجموعة واسعة من الأمثلة « أن الرأسمالية لا تخضع لأي قانون أساسي حقيقي. ولا يوجد سبب يجعل ديناميات الرأسمالية الإمبريالية في القرن التاسع عشر تظل صالحة في ديمقراطيات القرن الحادي والعشرين. هذا النوع من التفاوت في الولايات المتحدة ليس حتميا.»
ويضيف سستيجلز، بلهجة واضحة، بعد بضعة أسطر: «إذا لم تكن قوانين الاقتصاد الثابتة هي التي أدت إلى الصدع الكبير في أمريكا، فمن يكون؟ إن الإجابة الأكثر صدقاً التي يمكننا تقديمها على هذا السؤال: سياساتُنا وسياستنا. نحن لا ننتهي من استعراض نجاح بلدان الشمال الأوروبي كمثال، ولكن الحقيقة هي أن السويد وفنلندا والنرويج تمكنت من تحقيق نمو سكاني سريع وحتى أسرع من الولايات المتحدة وأكثر انصافًا.»
وبعد الإشارة بشكل مؤثر إلى كيفية قيام الجهات الفاعلة السياسية والاقتصادية والمالية بضرب الطبقات الوسطى وخاصة الشباب بالعنف الشديد، يختتم الجزء السابع من كتابه بهذه الكلمات التي اعتبرها كلماتي (ص 352): «لقد وجدنا المصدر الخفي للمشكلة: عدم المساواة السياسية والقرارات السياسية التي حولت ديمقراطيتنا إلى سلعة وافسدتها. وحدهم المواطنون الملتزمون هم من يستطيعون النضال من أجل استعادة أميركا أكثر عدلاً. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال فهم عمق التحدي واتساع نطاقه... إن عدم المساواة الذي يتزايد ويتعمق ليس بسبب قوانين اقتصادية ثابتة، بل بسبب قوانين كتبناها بأنفسنا.
إذا كان جوزيف سستيجلز قد قدم بكل بساطة المفتاح الذي سمح له بالتحرر من السجن الذي سجننا فيه أولئك الذين يؤمنون بقوانين الاقتصاد الطبيعية، فذلك لأنه لا يوجد غيره. كما أدرك بشكل عفوي، وهنا مرة أخرى على نحو واضح: هذا الجواب يُسمى التاريخ. إنه يفتح عالمًا مخلوقًا ومتغيرًا باستمرار وحتى مدمرًا بواسطتنا في كثير من الأحيان، ويجعلنا نكتشف أنه ليس لدينا طبيعة أخرى غير طبيعة خلق التاريخ: نحن كائنات، رغم كوننا مخلوقات طبيعية، فإننا أيضًا وقبل كل شيء خالقون لأنفسنا. ولتحولاتها وتاريخها.
أنا لا أزعم أن طبيعة ما ستكون مشتركة بين جميع البشر، بل على العكس من ذلك، أؤكد أن هناك نوعًا معينًا من المجتمعات، تلك التي نسميها حديثة، والتي تختلف عما أسميها المجتمعات النظامية، أو غير التاريخية. وتعمل الأخيرة وفق قواعد أولية وثابتة، بل إنها قادرة على استبدال التاريخ بالسرديات والأساطير، في حين إن المجتمعات الحديثة، تلك التي لا تستهلك كل مواردها، بل توفر جزءًا منها، وتراكم وتستثمر وبالتالي تحسن من قدرتها الإنتاجية ولكنها تخلق أيضًا أسبابًا للصراع الداخلي حول تخصيص واستخدام رأس المال المتراكم والمستثمر.
أقدم، ببضع كلمات، ومن دون أي نية صياغة نظرية، أساسيات ما سأكشفه خلال الجزء الأول من هذا الكتاب والذي سيفيدني أولاً في التخلص - بأقل أناقة وسرعة بالتأكيد من جوزيف سستيجلز، من بين جميع أشكال الحتمية التي سعت إليها العديد من العقول الخطرة لتقييد السلوك البشري بها.
ولأن ممارسات صناعة التاريخ ترفض فكرة الطبيعة البشرية التي خلقها إله كلي القدرة، فإن هذه الرؤية للمجتمعات الحديثة تحررنا من الأوهام الدينية؛ وذلك لأن الصراعات الاجتماعية المركزية، تلك التي تضع من يملكون ضد من لا يملكون، تتحول مع أشكال الحضارة المادية نفسها، يجب علينا أن نحرر أنفسنا من الأوهام الاقتصادية والسياسية؛ وأخيرا، ولأن الحداثة هي قبل كل شيء تاريخية وتغير، يتعين علينا أيضا أن نحرر أنفسنا من الوهم بأن سلوكنا يجب أن يتوافق مع المتطلبات الوظيفية الدائمة للحياة الاجتماعية، كما حاولت العلوم الاجتماعية المحافظة أن تجعلنا نصدق، فقد حاولت الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة نشرها في العالم.
ليس هناك ما يمكن إضافته تقريبًا إلى منظور هذا التحرر الثلاثي سوى متعة الاعتراف بأن عالم الفعل الاجتماعي، أي عالم الحرية والإبداع والحداثة، يحدده الترابط الكامل بين هذه المكونات الثلاثة: خلق وتحويل الحضارة المادية؛ والتمثيل المرتبط بهذه الممارسة لوعي الإبداع في مجتمع محدد بما أسميه تاريخيته؛ وأخيرًا الصراع المركزي، الذي يتعارض مع من يملك ومن لا يملك، وفقًا لطرائق مختلفة - ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية - في كل مرحلة من مراحل الحداثة.
إنه تغيير كامل للمنظور. فبينما كان العمل الاجتماعي يقدم لنا على أنه يعتمد على الوضع الاقتصادي، وعلى الثقافة، أي على تصور للعالم، وعلى السلطة الاجتماعية والسياسية، فإن الاتكال المتبادل بين الحضارة المادية والوعي الإنساني بإبداعه وبين نمط الهيمنة والصراع الاجتماعيين، هو الذي يشكل عالم العمل الذي تمارسه المجتمعات الحديثة على أنفسها وعلى بيئتها...
ولذلك أود أن ألفت انتباه القارئ لأقدم له الإجابة على سؤالين.
الأول هو: لماذا نطلق على هذا المجتمع الذي أدعي أنني أصف قدومه مجتمعاً فائق الحداثة؟ وحتى أولئك الذين يقبلون المنطق العام الذي اقترحته للتو، بدعم معنوي من خبير اقتصادي مشهور، لا يجدون في هذه الأفكار العامة اجابة كافية للمخاوف الحالية بشأن أزمة المجتمع الصناعي والحداثة وبخاصة الديمقراطية. عند قراءة كتاب ستيغليتز، ندرك أنه في صراع واضح مع كل من يحدثنا عن «أزمة الحداثة» و»مجتمع ما بعد الحداثة» وحتى «المجتمع السائل» كما يقترح زيغمونت باومان تسميته.
السؤال الثاني: هل يجب أن نخشى سقوط أو تفكك ما بعد الحداثة؟ لماذا تتمتع فرضية الحداثة الفائقة بمصداقية أكبر في نظري؟
من الواضح أن السؤال الأول من هذه الأسئلة المحتملة هو الأكثر أهمية. لم يعد الأمر يتعلق بتعريف مفهوم عام للغاية مثل الحداثة، بل تحديد الطبيعة الدقيقة للمجتمع الذي ندخله عندما نخرج من المجتمع الصناعي.
والحالة هذه، ليس من الصعب تقديم هذا التعريف. في حين أن المراحل السابقة من الحداثة تعرف بالمجتمعات التي كنا سميناها مجتمعات دينية والتي كانت تتوافق مع حضارة مادية زراعية، أو حقوقية سياسية لتلك التي تتوافق مع حضارة مادية تجارية، أو التقنية لتلك التي تتوافق والتي تحركها الحضارة الصناعية التي بدأنا الخروج منها (على الأقل في البلدان التي تعرف نفسها كمتقدمة صناعيًا)، تُعرف المجتمع الجديد وعلى نطاق أوسع الحضارة فائقة الحداثة بوعيها «الكامل والمباشر» بأنها قادرة على تحويل نفسها وخلق نفسها.
ولهذا السبب فإن هدفها الرئيس والمباشر هو خلق الإبداع وليس فقط الوسائل - التقنية أو السياسية أو الثقافية - لهذا الإبداع.
وأكرر أن مجتمع الحداثة الفائقة ينتج الإبداع قبل كل شيء، على عكس من سبقه. ولهذا السبب فإن ما نسميه بالتعليم بالمعنى الواسع يجب أن يحتل في المجتمع فائق الحداثة المكانة المركزية التي كان يشغلها القطاع الصناعي البحت في المجتمع السابق.
في المجتمع فائق الحداثة، لم تعد السلطة سياسية واقتصادية فقط كما هو الحال في المجتمع الصناعي؛ إنها أيضًا ثقافية، إِذْ أَنَّ الاتصالات هي معلومات تعمل على تحول السلوك والمواقف والتصورات والمشاريع وأساليب الحياة.
وهذا يجبر الحركات والقوى السياسية التي تدعي مقاومة القوى الشاملة التي تتكاثر هنا وهناك على التحرك على مستوى عالمي، والدفاع ليس فقط عن حقوق معينة - سياسية أو اجتماعية أو ثقافية - ولكن عن الإنسان نفسه كذات، في حقوقه الأساسية: الحرية، والمساواة، والكرامة. هذا المطلب ينقل مركز الحياة الاجتماعية والسياسية من الدفاع عن المصالح إلى تأكيد الحقوق الأساسية. وهذا سيكون موضوع الجزء الثالث الرئيس من هذا الكتاب.
وهكذا يصبح الوعي الاجتماعي هو الموقع المركزي للصراعات التي كانت تبدو، قبل جيل واحد، وكأنها منتظمة حول التعارض بين المصالح الاقتصادية.
في ظل هذه الظروف، وبينما بدا الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية قد سيطر على القرنين التاسع عشر والعشرين، كما هيمنت القرون السابقة على الصراع بين الملكية المطلقة وفكرة المواطنة، كما رأينا عن ثورات الهولنديين، والإنجليزية والأميركية والفرنسية، يمكننا أن نؤكد أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن المواجهة بين الخضوع وعدم الخضوع.
أن المواجهة بين الخير والشر - وليس مواجهة العشائر ذات المصالح والأحكام المسبقة - هي التي على وشك أن تنهض بالعالم والتي تتطلب التزامنا. ولكن هل نحن متأكدون من قدرتنا على الارتقاء إلى هذا السُمُوّ، والوصول إلى هذا المستوى من الوعي بالمخاطر التي تهددنا وإلى الآمال التي يجب أن نكافح من أجلها؟
إنني أخشى بشدة، مثل كثيرين بيننا، أن نثبت عدم قدرتنا على مواجهة الأخطار التي تهددنا، لأن عجزنا عن اتخاذ القرارات كبير للغاية. وفي الواقع، في مواجهة المخاطر البيئية التي تجاهل أو قلل من أهميتها لفترة طويلة، تراجعنا في البداية إلى سلوكيات الخوف أو الرفض أو المناشدة غير العقلانية للحياة “الطبيعية”، والتي لا يمكن إلا أن تزيد من المخاطر التي نواجهها.
ولكن في الآونة الأخيرة، منذ تدخل العلماء المكثف، وبعض الحملات الدولية، مثل تلك التي أطلقها نائب الرئيس الأمريكي آل غور، فضلاً عن المؤتمرات الدولية الكبرى مثل مؤتمر كيوتو أو مؤتمر باريس الأخير، أصبح لدينا فهم أفضل لـ الحاجة إلى توسيع وتعزيز قدرتنا على التدخل الفني للحد من الأزمات التي نتحمل مسؤوليتها والسيطرة عليها. ومع ذلك، كلما زادت المعلومات التي لدينا، كلما زاد استعدادنا للعمل، لأننا سنشعر بمزيد من التحديات.
وبالطريقة ذاتها التي يتعين علينا أن نفهم بها أننا لن نكون قادرين على السيطرة على الهجرة عن طريق تحصين أنفسنا خلف الحدود وترك اللاجئين يغرقون في البحر الأبيض المتوسط، علينا أن ندرك أن المشروع الأوروبي اليوم لن يكون له معنى إلا إذا قدم حلولاً لمشكلة الهجرة. المشكلة الرئيسة المتمثلة في نزوح السكان، والتي فرضتها جزئياً أزمة المناخ، ولكن جزئياً أيضاً بسبب الأزمات الاقتصادية وجميع أشكال الاضطهاد.
فبدلاً من حظر أو تقويض الجهود الرامية إلى الخضوع، أي احترام حقوق الإنسان الأساسية، نحتاج إلى مكافحة سياسات عدم التبعية، أي رفض الدفاع عن الحرية والمساواة والكرامة لجميع البشر.
ويجب أن يكون القرن الحادي والعشرون مستوحى من مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا، وليس من التعصب الطائفي والقومي والهوياتي.