الرمزي والنوستاليجي للأسطورة

ثقافة 2024/03/07
...

 أحمد الشطري 

لم يفد الشعر العربي - بتحديد أدق-  من الأساطير منذ أولى مدوناته وإلى عصور متأخرة، وإذا ما لاحت لنا لمحة هنا أو هناك فهي لم ترق إلى الشكل الذي يمكن أن يمثل إضافة تسهم في إثراء النص الشعري معنويا ورمزيا وجماليا، ومع ظهور الاستكشافات الأركيولوجية، وما أبرزته من ميثولوجيات لمختلف الحضارات القديمة، شكلت ثروة ثمينة في محتواها الفكري والرمزي والجمالي.

ألهبت حماس العديد من الشعراء الذين وجدوا أن القصيدة بحاجة ملحة إلى تغيير حداثوي يتناسب مع الحاضر المتخم بالمتغيرات بمختلف الصعد، والإفادة من كل مستجد يمكن أن يشكل إضافة تخدم العملية الإبداعية، فرأوا أن القصيدة بصورتها الموروثة تضيق عن استيعاب تلك المتغيرات المتلاحقة، وتعجز عن التعبير عنها بالعمق الذي يعكس إشكالياتها بصورة أكثر تأثيرا لدى المتلقي.

فراحوا يبحثون عن سبل التغيير في القصيدة شكلا ومحتوى، معتمدين على ما توفره الحضارة الجديدة من أفكار وتقنيات، وكنتيجة للتلاقح الثقافي والتفاعل مع الحراك الأدبي العالمي، ظهرت الجماعات الأدبية التي سعت إلى التحديث في القصيدة من خلال كسر نمطية القافية الواحدة من جهة، وارتياد مواضيع مغايرة وأساليب مختلفة تضمنت السرد والمسرح والقصائد الملحمية التي تناولت بعضها الحكايات الأسطورية بصيغة المحاكاة، وهو ما اتبعته جماعات الإحياء وأبولو والمهجر والديوان وغيرهم منذ بدايات القرن العشرين على يد شوقي والعقاد وعلي محمود طه وإلياس أبو شبكة وجبران وإيليا أبي ماضي والرصافي والزهاوي وصفاء الحيدري وغيرهم.

بيد أن التعامل الرمزي مع الأسطورة بدأ مع ظهور حركة الشعر الحر على يد السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري وغيرهم عراقيا، وخليل حاوي وأنسي الحاج وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور وأدونيس وغيرهم عربيا.ولعل التعامل الأخير مع الأسطورة ببعديها الرمزي والنوستاليجي هو أهم ما يمكن أن يعد إفادة حقيقية مما تضيفه الأسطورة جماليا وموضوعيا، ورغم ذلك فإن مستويات توظيفها لم تكن بذات النهج وذات المستوى الترميزي، بل كانت متفاوتة بين من استخدم الرموز الأسطورية محاكاة لذات المفهوم الدلالي، وبين من خرج بها إلى دلالات أخرى تنسجم مع فكره وموضوعاته كبعد رمزي أو قناع أو غير ذلك من التوظيفات التي تستمد من الأسطورة شخوصا وحكايات معطياتها الإثرائية التي تضفي على النص قيمة فنية وجمالية وسعة دلالية.ولم ينحصر التوظيف الفني للأسطورة بأساطير حضارة محددة، بل عمد الشعراء إلى الإفادة من مختلف الحضارات كالسومرية والبابلية والإغريقية والفينيقية والفرعونية.وعن مبررات استخدام الأساطير يقول بدر:» لم تكنِ الحاجة ُ إلى الرمز، إلى الأسطورة أمَسَّ ممّا هي اليوم، فنحنُ نعيشُ في عالَمٍ لا شعرَ فيهِ، أعني أنَّ القيمَ التي تسودُهُ قيَمٌ لا شعريّة، والكلمة العليا فيه للروحِ، وراحتِ الأشياءُ التي كانَ في وسعِ ِ الشاعرِ أنْ يقولَها، وأن يحوّلَها إلى جزءٍ من نفسِهِ تتحطّمُ واحداً فواحداً، وتنسحبُ إلى هامشِ الحياةِ، إذا ً فالتعبيرُ المباشرُ عن اللاشعر لن يكونَ شعراً، فماذا يفعلُ الشاعرُ إذا ً؟ عادَ إلى الأساطيرِ، إلى الخرافاتِ التي ما تزالُ تحتفظُ بحرارتِها لأنها ليست جزءاً من هذا العالمِ، عاد إليها ليستعملَها رموزاً.» ووفقا لهذه الرؤية كانت قصائد السياب محملة بالرموز الأسطورية بمختلف وظائفها، ورغم أن الاسطورة الإغريقية كانت هي معينه الأول، لكن تجربته شهدت تحولا نحو الأساطير السومرية والبابلية فكان لتموز وعشتار حضورا طاغيا في قصائده ولعل ذلك نابع من ارتباطهما بالإرث الحضاري لبلده، ومن ثم فإنّهما يعتبران أكثر رمزية في التعبير عن واقعه ومعاناته.

لقد كان التجاء السياب إلى الأسطورة والإرث التاريخي، وكما يبدو من كلامه، يتمحور حول بعدين: الأول هو المعطى الرمزي الذي يفتح أمام النص فضاءات واسعة من الدلالات التي تمنحه عمقا وثراء معرفيا، بالإضافة إلى ما يوفره من دفق تعبيري يستوعب المشاعر والهموم التي يضيق عن احتوائها التعبير المباشر، بينما يرتبط البعد الآخر بالحنين إلى الماضي (النوستاليجيا) وما يرتسم عنه في المخيلة من صور زاخرة بالقيم الجمالية. أما عبد الوهاب البياتي فيقول في كتابه (تجربتي الشعرية):» قد حاولت أن أوفق بين ما يموت، وما لا يموت، بين المتناهي واللا متناهي، بين الحاضر وتجاوز الحاضر، وتَطَلّب هذا مني معاناة طويلة في البحث عن الأقنعة الفنية، ولقد وجدت هذه الأقنعة في التاريخ والرمز والأسطورة».وقد كانت نصوص البياتي ثرية في توظيفاتها الأسطورية والتاريخية بمختلف دلالاتها ووظائفها أيضا وكان توظيفه لها توظيفا تفاعليا يربط بين الماضي والحاضر.في حين نجد أن نازك الملائكة كان أكثر همها منصبا على التحديث في الجانب العروضي، وقد استمرت في محاولاتها التجريبية حتى آخر دواوينها، ورغم ذلك فإن قصائدها لم تخل من توظيفات الأسطورة والموروث التاريخي بيد أن تعاملها لم يكن بذلك العمق الذي نجده عند السياب والبياتي. ومن قصيدة لها بعنوان (ميلاد نهر البنفسج) تقول:» وتولَدُ عندي القصيدة 

كمولد فينوس من زبد البحر طافية مثل وردة 

جدائلها أشطر عائمات

وأهدابها من حروف ومن كلمات

يوسدها الليل أهدابه، وهواه، وسهده.»

أما بلند الحيدري والذي يقول: أن» التراث هو أنا، بدمي، بطبيعتي، بانفعالي، بحساسيتي أمام الإيقاع الحياتي، و لا يمكن أن أنسلخ من هذا التراث الموجود فيَّ أصلا. و لكني رأيت أن التجربة الشعرية الناجحة لا بد أن تقوم على ثلاثية أساسية، لا غنى لواحدة عن الأخريين، وهي: التراث، و المعاصرة، و الواقع المحلي. و لا يمكن لأي عمل إبداعي أن يحقق وجوده إلا بهذه الثلاثية.»ولكننا ومن خلال تصفح دواوينه نلاحظ أنه كان أقل (الرواد الأربعة) تعاملا مع الأسطورة، بل أن تعامله مع الأسطورة والتراث العربي هو أيضا لا يحمل الكثير من العمق بعكس مما هو عند السياب والبياتي وبعض من تلاهم.ورغم أن الاهتمام بالأسطورة والموروث التاريخي كمعطى رمزي وجمالي هو أحد سمات التأثر بما جاءت به التيارات والمدارس الأدبية الأوربية، لكن ذلك الاهتمام  رسم في كثير من حالاته طريقا خاصا يتواءم مع الموروث الأسطوري والحضاري العربي.