د. مروة حسن لعيبي
تحكم النسبية جميع المجالات العلمية والفلسفية والقانونية، ويرجع ذلك إلى محدودية العقل البشري في تفسير المفاهيم وتكوين التصورات، فاللعقل حدٌ ينتهي اليه، كما أن للبصر حدا ينتهي اليه (الشافعي)، وكما يقول ايمانويل كانت (استطيع أن اصف لك كيف يبدو لي العالم، لكني لا أستطيع أن اصفه كما هو في الواقع)، فالعقل البشري بيئة لنمو الدلالات والمفاهيم، وليس بنية مكتملة متميزة معزولة عن السياقات المعرفية أو عن المشكلات والقضايا، التي يعالجها أو يشتغل عليها ولا يعيب ذلك العقل البشري، فالفلاسفة كانوا أكثر الناس استخداما لعقولهم، واستثمارا لها، إذ إن صياغة المفاهيم بواسطة العقل كانت شغلهم الشاغل، ومع ذلك فإن كل المشتغلين بالفلسفة يعترفون أنه ليس من شأنها أن تمنحنا اليقين، أو تحدد لنا مواطن الداء في كل قضية أو تقدم لنا مفاتيح حلول المشكلات، إنها نشاط فكري لا يتوقف عن اثارة الاسئلة واعادة صوغ المشكلات، إنها اشبه بمسلسل ليس له نهاية وهي دائما في حركة مستمرة من شكل إلى أشكال أعمق وأكثر تعقيدا من سابقه.
ولا يعيب العقل محدوديته، إنما يعيبه القالب الذي يتقولب به، والنمط الذي يضطرد عليه دون مراعاة التغيرات. يقول جلال الدين الرومي (تعلمت التفكير، بعدها تعلمت التفكير داخل القالب، بعدها تعلمت أن التفكير الصحيح هو التفكير من خلال تحطيم القوالب).
وحسب تصنيف بلوم فإن مستويات التفكير، هي أما دنيا أو وسطى أو عليا، ويعد التفكير بالقالب من المستويات الدنيا، اما التفكير بالنمط فهو من مستويات التفكير الوسطي، ويعرف النمط لغويا بأنه النوع أو الصنف، ونمط الشيء جعله على ذات صنفه ومذهبه، اما التفكير بالنسق فهو من مستويات التفكير العليا والنسق هو النظام والانسجام ومفهومه يعم كل الكون، بل إن الكون بكامله ليس إلا نسقا كبيراً يحوي داخله أنساقاً جزئية تتداخل فيما بينهما.
والنسق القانوني هو مجموعة القواعد القانونية التي تتحكم بالسلوك البشري تشترك في إنتاجها مجموعة من المتغيرات، وهو ليس نظاما ثابتا وجامدا، إنه ذاتي التنظيم من جهة، ومتغير يتكيف مع الظروف الجديدة من جهة ثانية، أي أنه في الوقت الذي يحتفظ فيه ببنيته المنتظمة، يغير ملامحه عن طريق التكيف المستمر مع المستجدات الاجتماعية والثقافية وسائر المتغيرات الأخرى، والنسق القانوني نظام يراعي طبيعة السلوك والمتغيرات في مسار التطور المستمر.
إن منبع النظام القانوني اما يكون التشريع أو الفقه أو القضاء، بالنسبة للتشريع القانوني والذي يشكل المصدر الأصلي الأول من مصادر القانون، فقد يُكوّن نمطا وبمجموعه نسق، ويتمظهر النمط التشريعي في بعض أصول الصياغة المتبعة عند صياغة القوانين.
وهو أن يسلك المشرِّع مسلكا واحدا في موضوع معين، أو تكون له سياسة نمطية تتوالم مع حاجات المجمتع، وحسب طبيعة الموضوع المعالج والقانون الذي ينتمي إليه.
وقد تبدو أهمية هذا النمط في كثيرٍ من الحالات لاستقرار المراكز القانونية، وتحقيق الأمن القانوني. ولا يمنع ذلك من تغييره في حالة تغيير الفلسفة، التي يقوم عليه القانون لتحقيق نسق شامل بين جميع فروع القانون.
وفي ما يتعلق بالقضاء، وهو المصدر الاسترشادي الأول للقانون، فإن النمط القضائي ضرورة نسبية ويعرف بأنه اتجاه المحكمة أو القاضي اتجاها واحدا، وحسب نوع القضية والمجال القانوني الذي تنتمي اليه.
كأن تكون قضية إدارية يتطلب لها نمطاً لاستقرار المراكز القانوية، أو نمطا في بعض القضايا المدنية، اذ يمكن في اغلب الحالات الاستئناس بالقرارات التمييزية الصادرة في هذه القضايا حتى شكلت بعض القرارات مبادئ قضائية راسخة.
أما في القضايا الجزائية فتبدو خطورة النمط الواحد لعدة أسباب، منها أن النمط الواحد لا يحقق العدالة، اذ يقوم القانون الجنائي على الوقائع، والتي تكون نسبية متغيرة غير ثابتة بالنسبة لجميع المتداعين.
اما في ما يتعلق بالفقه وهو المصدر الاسترشادي الثاني من مصادر القانون، فأخطر ما يكون فيه تنميطه وقولبته، إذ يضع الفقيه في قالب واحد يفكر داخل الصندوق، ويتقيد بالنظريات والآراء الفقهية والفلسفة السابقة، دون ابتكار وتقييم وتحليل متجدد متانسيا الحاجة الاجتماعي والتغير المستمر في النظام الاقتصادي السياسي الاجتماعي وتأثر الجغرافية والعوامل الاخرى في كل زمان ومكان، فلا بد أن يكون لكل فقيه فلسفته وابتكاره وتحليله وتقييمه في اطار العلم والمنطق والتشريع، وكما يقول ابن عربي (تتلون الحقيقة بوعي العالم كما يتلون الماء بالزجاج).
هذه المصادر المذكورة جميعا يكمل بعضها بعضاً تتناسق وتنسجم في ما بينها لتشكل نظاما قانونيا واحدا