رعد أطياف
في الفلسفة الشرقية نعثر على نظرية شاملة تفسر ظواهر الوجود، وتحلل الكيفية التي تنبثق من خلالها الظواهر.
تعلمنا هذه النظرية باستحالة النقطة المرجعية، وأن العلاقات البينية هي قاعدة الارتكاز والحقيقة الأصلية؛ فما من شيء ينبثق إلّا بالاعتماد على غيره، كل الظواهر في تواشج أبدي، وعلاقة اعتمادية، لا تمايز فيها ولا أسبقية؛ إذا ظهر هذا ظهر ذاك، والعكس الصحيح، ذلك أن الظاهرة هي سلسلة طويلة من العلاقات البينية.
لا يختلف الموضوع في نشوء الحضارات، من حيث كونها مشروعا تعاونيا، تضافرت فيه جهود بشرية متنوعة، لدرجة يصعب استحالة نشوء حضارة بجهود ذاتية محضة.
الحضارات لا تموت بل تنتقل مكانياً، وتزدهر في مكان آخر. وبمقتضى التدافع والتراكم تنبثق منها ابتكارات جديدة بحكم المكان الذي تحركت نحوه.
فالحضارة بالأساس هي مجموع ما تراكم من الحضارات السابقة.
ونقطة قوة ديمومة الحضارات وبقائها مزدهرة، هي في إيمانها العميق بالتنوّع والاختلاف والجهد التعاوني. وحين تتنكر لهذه الحقيقة الوجودية وتتحايل على هذه السلسلة التعاونية، وتعلي من شأن عرق على عرق آخر أو طائفة على أخرى، فحينذاك تبدأ عملية الانهيار التدريجي. التنكر للتنوع والاختلاف يصيب الحضارة- المجتمع- الدولة- بمقتل، ويسقطها في حفرة الماضي العميقة، وتتحول إلى بقعة هامشية في العالم، لا تساهم في رفد هذا الجهد العالمي الواسع النطاق.
نقطة التحول الكبرى في أي حضارة هي الإيمان بالتنوّع والاختلاف، والمرونة والانفتاح مع الآخر، وعدم السماع بشيوع أوهام المركزية العرقية أو الفئوية، والتاريخ حافل بهذه الأمثلة، وياله من معلم لو استنطقناه. فهو يقول: أحد عوامل الازدهار هو الإيمان بالتنوع والاختلاف والعيش
المشترك.
أياً كانت الأسباب والجمل المنطقية المنمّقة، التي نسوقها عادة لتبرير القمع، ومصادرة الحريات، والخوف من التعددية، فالنتيجة واحدة: انهيار وشيك. الدرس الذي علمنا إيَاه التاريخ هو عمر الإمبراطورية، أو عمر الدولة، مقرون بمدى اهتمامها بالتعددية والانفتاح، وبخلافه ستهوى هذه الإمبراطورية - أو الدولة - في العدم الوشيك، ثم تنخرها الهويات الفرعية، ويمزقها الفساد السياسي والاجتماعي شر ممزق.
ازدهرت الحضارة الفارسية لإحساسها العميق بضرورة التسامح، وعدم إجبار الناس على ما يكرهون من دين أو لغة. كانت بلدان الامبراطورية تتمتع بهامش من الحرية، تلتزم بديانتها، وتستخدم لغتها المحلية في الخطابات والمراسلات الرسمية.
بيد أن ذلك الازدهار والأيام الخوالي مزقتها سياسات الاستبداد والقمع والتنكيل برعايا الامبراطورية، حيث تسلم القيادة إباطرة نهمين للقمع والتنكيل، وموغلين بالدماء فانهارت هذه الإمبراطورية المترامية الاطراف.
وازدهرت روما بفضل عبقريتها السياسية والإدارية وتبصرها العميق بخصوص قيمة التعددية والتسامح، والمواطنة السياسية.
وكان أباطرة روما نموذجاً يحتذى به للتنوع والاختلاف؛ فأنت تجد الأسباني، أو الأفريقي، أو الأوروبي يتقلّد المناصب السيادية العليا ثم يترقى لرتبة الإمبراطور، إذ لا توجد أمراض عرقية مستحكمة حول نقاء العرق، يمكنك أن تكون إمبراطوراً حتى لو لم تكن تمتلك دماءً عرقية نقية!
ثم ما لبثت تلك الإمبراطورية بالانحدار بفعل السياسيات القمعية واتخاذ سياسة التعصب كأحد الهروات السياسية لقمع الشعوب وإكراهها على ما ترفض، مثلما حدث في روما يوم اعتنقت المسيحية بوصفها الديانة الوحيدة للإمبراطورية، وشنت الحروب على ما سمتهم الهراطقة والوثنيين.
بزغ فجر الصين وانسدل الستار عن حقبة تاريخية مظلمة وهي حقبة الدويلات المتحاربة، وبفضل سلالة «التانغ» وإحساسها العميق بالتنوع والاختلاف، واحتضان باقي الأعراق (التي لا تنتمي للعرق الصيني النقي!).
ومن طرائف التاريخ وحكمه التي لا تنتهي، أن مؤسس هذه السلالة لم يكن من العرق الصيني، وإنما كان من أسرة تركية، مثلما تذكر الكاتبة الأمريكية ذات الأصول الصينية إيمي شوا، وكان الصينيون ينعتون الأقوام التي تقطن خارج سور الصين بـ»البرابرة».
ثم أفَلَت شمس الصين وتاهت في غياهب الانقسامات حين خيم عليها شبح التعصب والاستعلاء والانقسام العرقي.
خلاصة هذا الكلام: مصادرة الحريات، والتنكّر للتعددية والانفتاح، واحتقارالتسامح والاعتراف بالآخر، إيذان بقرب المنيّة، ولا يمكن لأي قوة أن تمنع هذا السقوط المدوي.
كل من ما زال يعتقد أن الحفاظ على السلطة يتم بالقهر والإذلال ومصادرة الحريات والتنكر لسنة الحياة القائمة على التنوع، فهو لم يتعلم من دروس التاريخ، والفرص تمرّ مرّ السحاب.