علي لفتة سعيد
تؤكّد جميع الأديان والمعتقدات والأفكار والفلسفة وحتى الأيديولوجيات المختلفة، إن الإسراف أمرٌ حرام.. فلا يجوز شرعًا ولا وطنيًا ولا حزبيًا ولا عقائديًا ولا أي شيءٍ مرتبط بالحياة أن يكون الإسراف حاضرًا وحاصلًا في العمل اليومي، بل إن الدول المتحضّرة تؤكّد أن عدم الإسراف واحدٌ من طرق تطبيق المنهج الحياتي، وإن التبذير واحد من الطرق التي تؤدّي إلى الفوضى والى ضياع (النعمة)
كما يقول بعض الفقهاء. وهو من مساوئ الأخلاق. ولا أعتقد أن هناك عاقلًا يؤيّد الإسراف والتبذير، بل إن المسرف ذاته حين يتحدّث يعبّر عن (حرام) الإسراف والتبذير من اجل التباهي. ولا أعتقد ان هناك جهلًا في المعلومة على أن الإسراف شيءٌ مخالفٌ لكلّ شيء.
إن القرآن الكريم أكد على ذلك في سورة الإسراء:29 (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) وأيضا فيس ذات السورة 26-27: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: “كُلُوا، وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا، غَيْرَ مَخِيلَة، وَلَا سَرَف”، وقال الشَّافِعيُّ: (التَّبذيرُ إنفاقُ المالِ في غيرِ حَقِّه، ولا تبذيرَ في عَمَلِ الخيرِ).
إذن السؤال لماذا الإسراف في كلّ شيء لدينا، بدءًا من الطعام الذي يقدّم للضيوف أو التباهي به في المآتم والأعراس والمناسبات الدينية؟ وقد وصل الإسراف إلى الماء ونحن أمام أزمة شحّته المؤذية، إلى أن يقوم يوميا آلاف المواطنين إذا لم يكونوا مئات الآلاف بعملية رش أبواب البيوت في عادة متوارثة؟. فضلا عن الإسراف في الكهرباء بشكلٍ مفرطٍ، وخير شاهدٍ على ذلك هو المحال التجارية والفنادق اصحاب محطّات الوقود الذين يعلّقون مئات المصابيح التي تصل المحطة بالجزرة الوسطية وكذلك المطاعم الخارجية؟
إن واحدةً من أسباب مظاهر الإسراف هو التباهي أمام الناس، وهذه عقدة (ريفية) كأنها مسابقة أو غيرة بين جهةٍ وجهة، لتتحوّل إلى الموطنين في عملية الإسراف والتباهي. فضلا عن كونها عرفًا لا بدّ منه، من أجل التعريف بالكرم والجود الذي نتباهى به أمام الناس دون الانتباه إلى (حرام) الفعل من أساسه كأن ينحر الذبائح للتباهي بحفل ختان أو لعودةٍ من العمرة، أو زواج عزيز أو وفاة شيخ أو مسؤول. يضاف إلى ذلك استخدام الإسراف في الإعلان لشيء ما، أو الدلالة الضوئية التي تعني ليس فقط الإشهار، بل إلى ضخامة المشروع وأهميته.
وكلّ هذا يعني تغلب العقدة النفسية المتباهية على الثقافة والوعي والإدراك، مما يعني تغلّب وازع (التباهي) على الوازع الديني والثقافة الفردية.
إن الدول العديدة تستخدم الكثير من القوانين والقرارات للحد من الإسراف، سواء باستهلاك الماء أو الكهرباء وحتى الطعام. حتى أن المواطن تعوّد وتعلّم ألّا يسرف، فيجعل مثلا في صالات الانتظار في الفنادق بضعة مصابيح، في حين تشتهر فنادقنا بإضاءة عشرات المصابيح في قاعةٍ لا تتجاوز مساحتها خمسة أمتارٍ مربّعة. وحتى غرف المسؤولين التي تنتشر في سقوفها وجدرنها الاضوية وأجهزة التكييف.
إن الأمر بحاجةٍ إلى قوانين فاعلةٍ وفورية، وليس التحجّج من أن المسرف يدفع المبلغ الذي يسرفه مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الكثيرين منهم لا يدفعون الأموال وخرجت أكثر من مظاهرة للمطالبة بإسقاط الديون والأجور.
إن على الدولة بكلّ مؤسّساتها وحتى المؤسّسات الدينية أن تجعل من عملية الإسراف والتبذير واحدة من فعّالياتها التوعوية، وليس التباهي بحجّة القيام بالواجب. لأن الأمر يؤثّر في المجموع الكلّي للشعب، وليس على الفرد المسرف والمبذّر. ومنها أنه كلّما زاد انتاج الكهرباء مثلا، زاد معه الإسراف وأدّى إلى زيادة ساعات القطع.. والأمر كذلك على الماء واستيراد الأطعمة للمناسبات التي تكلّف الدولة ملايين الدولارات.